الاثنين، 8 يونيو 2015

رائحة الياسمين


(٠)
اقرأ ببطء وعلى مهل، لا تتعجل فالحرف لن يحرق عينيك، العمر يمضي وهو واحد، وهذا الوقت لن يعود، تأمل حتى تستطيع إخماد نار البحر، كي لا ترى الجبال كل هذا الدخان الكثيف، وتفضح السر الذي فر من موجة شاطئ بريء، وكفَّ عن التأويل، المعنى بصدري متشبث به لن يسرقه هواء، ولن تراه؛ لذلك امعن النظر كثيرًا، لعلّك تشم عطرًا من سراب، وبقايا فكر تآكل من قهر الزمان، وأنظمة تولّد الفوضى بإبتسامة صفراء يعلوها ذهب يُفنى لأجله كل تراب وما عليه .. المقدمات تأخرنا لا تقدمنا، فلتمت هذه القدمة التي لا تنتهي.

(١)
في هذه المدينة لا يُسمع للأبواب صوت، قفوا مهلًا! لاتدخلوها من هذه الأبواب وأنتم آمنين، أنظر هناك للشارع الممتد من الحزنِ الى الحزن، تأمل هذه العراقة وكل أنواع الحضارة، ورائحة التاريخ، وعبق السنين، الآن أنت تقف على أشلاءها، كلها دُفنت، وماتبقى رماد وبعض سراب، لا تقف هكذا! فللتاريخ والأموات احترام، لا نطأهم بأرجلنا، بل نحملهم على كاهلنا، بكل رشاقة، يتسرب من كذاكرة لا تنضب، كتراث مفكر عظيم، او فيلسوف حطم العادات والأنظمة، ثم حطموا جسده، ليمجدوا أفكاره العظيمة، مدينة يصقلها الضباب، وعزفها آهات حنجرة مثقوبة هجرها الهواء، وشعبها أسطورة فيلسوف مشبّع بالوعي وأقنعة الخيال، أعينهم أغشاها السراب، لا الأنهار تأتي ولا المطر، غارقه بالسيول والظمأ، جفاف بصدر الورد ولسان ذلك الناي المتآكل.

(٢)
التاريخ هو رائحة الهوية، نعود لأزقته لنعانق الإنسان، ونتفقد ملامحه بكل ما أوتينا من حواس، لنرى من رسم الحدود، لنبكي كثيرا، ونعي أكثر مما يجب، لنرى الأجداد، ومن سرق ملح البلاد، ولمَ هذا الساحل لم يهدأ منذ آلاف السنين؟ هل يذكرنا أم يعذبنا؟ هذه الأرض المشبعة بنا، التي نحرثها بأرجلنا كل يوم، أو بإطارات السيارات ومدافع من نار يخترق الأجساد وما عليها، هل تشكو الأرض؟ وهي أولى منا، هل ترى جدي الذي مات ليحرث هذه الأرض يعلم بإننا سنغرق بالماديات والشكليات؟ بعيد عن كل غاية، اغتلنا الغاية ومسخنا الوسائل، غارقين بملاحقه السلع التي لا نريدها، لكنها تريد أموالنا ووقتنا، نسير بلا هدى كأعمى غرق بمحيط تحرقه الشمس، أصبح الإنسان "شيء" لا كيان له، نخضعه لقوانين السلوك الحتمية، نستعمله كما نشاء، ونتخلص منه بأرخص طريقة بعد الانتهاء منه.
على ضفاف مدينتنا، وجدت الغربة مسبية!

(٣)
للعشقِ تحيةٌ وألفُ سلام، هو روح المبدعين، ولوحة الجنون التي تخترق كل التناقضات، وارتباكة ريشة فنان على لوح ليس أبيض كما يبدو، وتساؤل شاعر، من يلد من؟ القصيدة أم انا! هنا يتلاشى المنطق، لخلق منطق جديد، أو ربما نص عتيق نزفته الآن بقلمي بعد سقوط الكثير من المطر والمنطق، والأكثر مني! 
أنا المختبئ بذاكرة الأبدية، لن أموت. ولن تراني!
ربما الحياة ليست عادلة بما يكفي، لتخلق لقاء، لتُبدِع كونًا آخر، ليس فيه سوانا، دون ألف مستحيل، وهدنةٌ واحدة، 
نبضات قلبي لا أعلم لم تتبعثر بهذا الشكل العبثي، كخلايا مفكر وجودي إتخذ العبث ستر مُعرى، لا إنتظام ولا أمام.
الآن أكتب إليك والظلام ينهش بأضلعي، كذئب مفترس، أشتاقك كثيرًا، وددت اغتيال النوم الذي سرقك مني، أشعر بالوحدة، مليء بالوحدة، والشعور بالوحشة، وكأنني آخر من تبقى على وجه الأرض، كل من عداكِ أشباح، أشباح أشباح.
أنتِ السماء وخيوط الأجوبة التي تبحث عن سؤال بين صدري والحياة وقبري وعيناكِ
تختنق الحياة بصدري، يضعف نبضي قلبي، عندما أعلم بأنني سبب الحزن المتراكم بصدرك.
أرجوكِ، أرجوكِ، أنقذيني، ضميني لصدركِ لتبثي الحياة بصدري، ويَزهر قلبي، أنتِ أنفاسي وحلمي وحياتي.
انتِ قافيتي، وأوزان شعري، وموسيقارة النبض، بإشارة منكِ أو ربما تكفي نظرة، لتبعثر كل شيء، أو تعيد النظام أفضل مما كان، انتِ وطني ومنفاي، ونشتاق للمنفى كما الشوق للأوطان، ربما لا نحمل جنسية أو جواز سفر، لكننا أقرب من كل المواطنين، وكل الأوردة والشرايين.
صومعتي، وحدتي، عزلتي التي كانت أبدية إلى أن رأيتك تخترقين قلبي وانا عاجز عن الحراك، عن الدفاع، عن فعل أي شيء غير الاستسلام والذوبان بكِ، كنت لا أريد الخروج من ذاتي، هكذا لا أحد يعرفني، أو يراني، أعيش حياتي بفكري، فيلسوف لا ينعطف عن فكرة، وفجأة وقع بالحب والعاطفة! ثوري بملامح مسالم، أهوى الحروب والإنقلابات، لا أحمل سلاح، لكني أحمل رفضي، وكل (لاءات) العالم.

(٤)
وحيد كان بالصحراء، يقاتل المنفى وسجنٍ بلا أسوار، وبوصلته عاصفة اليقين، بصدرٍ تآكل من شدة الصمت والعطش، قديس، صومعته الكون بلا حدود، يغتال وحدته، يناجي الأشجار وكل نجمٍ أدمن الأرق، ليغفو برمال همشها الزمن، ويحلم بأن الأعماق قد زارها ضوء شمسٍ أو قمر، وربما فجرُ وعيٍ وشروق جديد أرسله الأمل، لن ينتهي حلمه، فهو غارق بعالم بعيد جدًا، لن يعود، ترك جسده الهش، ورحل بروحه، لعالم أسمى.

(٥)
الى القمر وكل ضوء المطر:
ما لكَ تقف محايد لهذه الدرجه وكأنك شبح لا يبث الحياة، تعلو السماء شامخ لا تعانق أجسادنا إلا عن طريق شعاع من بقايا شمس راحله، تراقب الأيام، وهي تنحني للزمن، يومًا بعد يوم، كنت معي بطفولتي، بذاك الليل الطويل، بغربتي عن هويتي التي أحملها، عندما كنت مشبّع بالأرق، لم تمدَ يدك لتحدث التغيير، انا الذي أخبئ أحلامي وتناقضاتي، انا مثلك تمامًا، لستُ كما أبدو عليه، مثلك! يا من ألهمتني الظلام والنور، والاستقرار والفرار، انت الذي لا تؤمن بالصلح، تغتاله وتكمل المسير، وكأن لك بيادق من سراب، بكل هذا العلو، وتلك الثقة.

(٦)
لا تبكي .. لقد تحررت الآن من سجني، السجن الذي كان يخنق روحي ويغتال كل وعي وخيال أحمله، الآن انا ارى الحياة دون قيود وأوهام، أراها جلية جدًا، كالشمس، كالقمر بالصحراء، كنت مثقل بالوعي، بالدهشة، لم أحمل همًا يعادل عمري، أو جسدي الهش الهزيل، مختبئ خلف ابتسامتي، لم يهمشها الزمن، أخشى أن تقسط، لكنها لم تسقط، بل سقط جسدي بأكمله، بهذا الطريق، غارق بدمي، حولي الكثير من الغرباء، لا أعلم لم هم هلعون لهذه الدرجة، ألهذا الحد فظيع هو المشهد الأخير لشخص غريب، بعيد عن أرضه، وطنه، وأحبابه، عن امي التي لن تهدأ بعد اليوم، وأبي الذي سيحمل دمعته ويسقط كبرياء الرجل العظيم، سيبكي كثيرًا، للحد الذي سيجعله يصفع الحياة، وابنه الذي رحل دون أن يودعه، ربما سيفتخر به كما في حياته، سيجعلني بطل خارق كأي شخص يعانق الموت، لا تبعثوا جثتي لحبيبتي، دعوها تحيا وتُحييني بذاكرتها وقلبها الذي لا يهدأ، لا تذرفي الدمع، فطوفان نوح لم يجف بعد، اني أراقبكِ الآن من السماء، لا أعلم ربما! أتى المسعفون الآن يبحثون عن النبض، ليتهم علموا بأنه معكِ الآن وللأبد وللأبد ...

(٠)
عندما يفوتك القطار، ستندم كثيرًا لأنك تأخرت، وعندما لا يأتي القطار ستتحجر من شدة الإنتظار، لكن عندما تأتي قبل الموعد وتركب القطار بكل طمأنينة وأمان، وبمنتصف الطريق ترى نفسك بصحراء وحيد تداعب العواصف، وتذكرتك التي قطعتها ثم قُطعت انت من الكرسي، ستشعر بخواء هذا الوجود، وتغرق بالعدم.

التناقض: اللوحة الصادقة للواقع .. هكذا يُرسم الواقع، مثل لوحتي أو رسائلي السابقة. 

الصفر هو البداية وإليه نعود.