إنسان
(٠)
رسالة لله
باسمك البداية والنهاية ،،
سيدي أتحسس الطريق ببصيرتي، بصري ضعُف منذ سنين، ولا أعلم مدى بصيرتي، فنحن لا نمتلك أجهزة تقيس حدة بصيرتنا، ربما بالمستقبل سيخترع حفيدي هذا الجهاز، نحن الآن نقيس بصيرة الآخرين بطريقة يدوية سهلة، كل من يخالف معتقداتنا وعباداتنا، فهو أعمى البصيرة، وقد ضل سواء السبيل.
رباه! كلما ظننت بأني أعتصمت بحبلك، أجدني حيث لا أعلم، تائه، مليء بالوجهة، خالٍ من الطرقات، أحدّق بالزمن، أرتجف خوفًا، أتدثر الحياة علّٓ خوفي يهدأ، تزداد وحدتي، وجهلي بالحياة، كلما إتسع الطريق وضاق صدري.
لست من الصالحين، ولا أنوي أن أكون منهم، لكنني -يالله- أحملك بقلبي أنى اتجهت.
اليوم قد حلمت حلم غريب، كنت أخوض حربًا باسمك، -وما أكثر هذه الحروب، كل الأطراف تدّعي ذلك- انتهيت منتصرًا، نجوّت بإعجوبة، مهمتي انتهت، وطلبت مني تسليم روحي لك، وهذا ما فعلت، مشيت، وشعرت بخفة عجيبة جميلة، فتحت يداي، وسلمت الأمانة لك، روحي، وكياني.
رباه! انا ذو شكٍ عظيم، ولا أُجيد إتباع الأولين، أجرجر بقايا يقيني، أقترب من بابك، أنزع تشردي، وألملم هروبي، أنصت للسماء، للمآذن والنواقيس، أتمسك بعروة الدعاء، أخشع لك بصوتي الذي وهبتني إياه، وأصل للعالم الأسمى، بعيد عن دنيا الشتات.
لم أعد أخشى الموت، ربما هو الجسر الممتد من العدم الواصل لك، بسدرة المنتهى، الموت هو الأمر الوحيد الذي لا اختيار به، ونحن نخشى الإختيار.
انا المحفوف بالصمت، ما حاجتي للغة، كي أوصل المعنى لخالق اللغة، والمطلق الوحيد، والمعنى.
(١)
الحياة عصيّة على الفهم، كل ما أمتلكه خُطاي، أُسابق الزمن، ويُخيفني بسرعته، لدرجة إني لا أستطيع الوقوف ولا الحراك، أترنح كأنني قصيدة نحتها الظلام والربكة، الآن أحاول الكتابة كي أتحسس الزمن الضبابي، وأحاصره بطوق من سراب، أنا الإنسان وبداخلي بيادق الوعي تود الهجوم، لكن الوجهة تمنعها، لأنها لم تُخلق بعد
هل نحن مجرد حكاية؟ وقصة تُغذي ذكريات أحفادنا، كي تُنير دربهم وليلهم الطويل، ويمجدوننا كأسطورة، ونُتخذ قدوة، والله أعلم هل هي حسنة أم الأحفاد حسنوها كي تتماشى مع مثالية الذين مضوا، ويصيح حفيدي الأحمق: "الله يرحم أيامك يا جدي"
(٢)
لا أعلم كم من الوقت مضى على آخر لقاء لنا، كل ما أعلمه الآن، ان القدر فرق بيننا، يا صديقي انا ابتعدت عن الأرض التي يسمونها "مسقط الرأس" وانت كذلك على ما يبدو، الآن سأكتب لك الرسائل بشكلٍ تقليدي، ورقة وقلم، واسمي بآخر الورقة، وتوقيعي بقربه، بالطبع ليس توقيعي البنكي، كما تعلم، انعدمت الثقة قبل أن تُوجد.
أكتب إليكَ الآن، والجبال تُحيط بي، انا ابن الساحل الذي يحمله معه أنى رحل وإرتحل، أفتقد البحر كثيرًا، أشتاق لموجه الغاضب، لرائحته التي تذكرني برائحة أنفاس الكون، أقمت علاقات جديدة مع الطبيعة، هنا حيث الجبال التي اتأملها من نافذة غرفتي، والأمطار التي تعكر صفو الكهرباء لتتعطل وتتأمل المطر معنا، معنا نحن البشر، وكأنها تصرخ بمُلئ أسلاكها: انا مثلكم بهذا الوجود وجود.
لا تخشى علي من تغير البيئة، فانا إنسان، والإنسان يتكيف بطبعه.
لا زلت اتأمل الطبيعة، والبشر، ونفسي، وكل يوم تزداد دهشتي، حيرتي، وتزداد ثورتي ورفضي اللذان تعرفهما، ومعاركي ضد الوجود لا زالت قائمة، بين كرٍ وفر، والنتيجة غامضة، عصيّة عن الفهم، كالوجود تمامًا.
أحمل أفكاري، وهي كما كانت، حزمة تناقضات متباينة، بها الشك واليقين، وقلبي متصوف، قديس بملامح زنديق، وعقلي متمرد ضد السكون والمعايير الباهته التي لم يأكل من الدهر لأنها بالية جدًا.
الغربة، هي ضرورية كما يبدو، توسع مدارك الإنسان، ومنظوره الضيق، تبرز ذاته كما هي، دون زخرف التراث العائلي، والاسم، او الإنتماء للبقعة التي أنجبته، هنا حيث تختلف أحلام الناس، ومخاوفهم، وطريقة معالجتهم للأمور، كيفية تعاملهم مع الأفكار، حيث تختلف المعايير، والمعايير كما تعلم، هي التي يبني عليها الإنسان أفعاله وأقواله، وضميره أمام الله ونفسه، هنا حيث تتضخم وتتضح نسبية المعايير أمام عقلي، ونسبية الجمال كذلك، ولا أنسى نسبية التغذية، التي يستاء منها الجسد بعد الإعتياد على عادات أكلية منذ طفولته.
عندما أرفع رأسي بالليل وأرى السماء، أشعر بالوحشة، ببعد المسافات، تنكمش روحي حتى تقترب للتلاشي، النجوم أكثر من المعتاد، بهذه السماء اكتشفت كمية الرعب بالعواصف الرعدية التي تضرب الأرض غاضبة.
محاط بالكثير من الكتب، أتنقل بين أعماق الفلسفة المظلمة بشكل مضيء، لعقد الروايات وحبكاتها المدهشة، للشعر وإتزان أحرفه، وضياع منطقيته، هو درعي ضد الوجود، ضد الوحشة والضياع، به مشاعر البشرية وحيرتها الموسيقيه التي تطرب أوتار صدري، وتنبش مابه، ليتضخم بشكل مرئي لذوي القلوب الثاقبة.
كما تعلم سجيتي لم تتغير، فانا اجتماعي مُنعزل، أخالط البشر من كل صنف، ثم أهرب من الجميع باحثًا عن نفسي، بين صفحات كتاب، وأصعد السلم الموسيقى وأهبط سريعًا، علّني أجدني هناك، لكنني أسكن ذاتي، وكل السماواتِ.
الذكريات هي هوية الإنسان، ووقود مصباح الحياة، هذا الكهف الأبدي للجسد والروح، بدونها هو لا شيء، شبح، كالحجر، وأضل سبيلا ...
الآن اشتدت أصوات الرعد، عاصفة تلقي التحية على ما يبدو، بطبيعة الحال، انقطعت الكهرباء، لذلك انا مضطر لترك هذه الرسالة فجأة، دون إتمامها، كالعمر الذي ينطفئ فجأة، إنطفأت الكهرباء، سأذهب لأشتم الكهرباء والأسلاك مع أبناء جيراني، هذا هو واجبي والخيار الوحيد.
مع التحية ،،،
(٣)
مفهومي انا للحياة ...
انا محارب، لا أعلم من أي طراز، عدوي وحليفي الوحيد، هو الوجود، سأكذب إن قلت بأني أمتلك مفهوم ثابت للحياة، نسبية الحياة، المعايير، المفاهيم، جعلتني لا أؤمن بأي شيء ثابت، عدا الله، المطلق الوحيد بهذا الوجود، ولا أعني الله المسلمين أو المسيحيين أو اليهود، أو غيرهم، أعني الله الذي يلم كل القلوب، لا يكترث للأسماء، للمذاهب، بالزخرف هذا الذي يقاتل عليه البشر، وجه الله الذي بكل مكان، بمسوح الزنادقه، وشتائم السكارى.
مفهومي للحياة نسبي، ومتغير، كمزاجي مثلي تمامًا، كل ماتقدمت بالعمر، بالترحال، أرى البشر، الطبيعة، يتغير فيَّ الكثير، أضع كل مسلماتي ومفاهيمي الفلسفية على طاولة النقاش، دون حكم مسبق، أُغير كل الخطط الوجوديه التي وضعتها، وأصيغها من جديد، روحي اكتسبت لياقة جيدة، لتحمل كل هذا، وإن كانت في بعض الأحيان تمر بمطبات وحفر وجوديه، أجد صعوبة بالخروج منها، أتحسس المعنى، أترقب الغاية، أنصت للعزف، أحاول معرفة السلم الموسيقي للحياة، أفهمه جيدًا، أستخرج منه المعنى، بتأويل، ورؤيا، لا أعلم مدى صحتها، بهذه النسبية، حيث لا ثبات، لا حزام أمان، حادث بسيط يمزقني أشلاء، دماء بكل مكان، وأقف ضاحكًا، باحثًا عني ذاتي، لأعيد تركيبها بما تبقى مني.
أراقب الوجود، وانا مستلقي بزاوية بعيدة، أبحث عن المعاني، برؤوس البشر، بحفيف الشجر، البحر محمل بالمعاني.
ببعض الأحيان، أحسد البشر، كيف يندمجون بهذه العاصفة، الحياة، بكل سلاسة دون سؤال، يغرقون بمتابعة فريق كرة قدم، أو تكوين أسرة، جمع مال، أو مطاردة سلع، دون وضع استفهام!
يضع الإنسان أهداف وأحلام مستحيلة التحقيق، لأنها إن تحققت سيبقى بلا هدف، بلا غاية، تائه بالوجود
(٤)
لي أمنيةٌ
أن أحتوي الكون كالهواء، أحيط به علما
وأن أصبح بحار أركب الموج، ولا أؤمن بأي مرساة
وأطير بحثًا عن جزيرة لم تُخلق إلا ببوح أوهامي
وأن أصبح فيلسوف وعى بالحقيقة، دون أن يعتزل الناس، ويعزف الناي، وروحه لم تغرق بلجة الحزن، ولم يتخذ العبث سترا
وأن أصبح كاتب، أكتب لنفسي، باحثًا عن ذاتي، ألملم حيرتها، دون أن أكتب "ما يطلبه المستمعون"
وأن أعيش ما تبقى من عمري رحال، دون استقرار
وأن أرسم العالم الذي بداخلي، بريشة ملهم مبدع، مع خلط الألوان، وأمزج كل الحقائق، والتناقضات المجتمعة بالخفاء
وأن أتصوّف وانا ذو شكٍ عظيم، لذلك أبتعد عن تكية الدراويش، وأحيا بين كل الطبقات ولكلها أحيا، دون ان أخضع وأستسلم، أعيش بذاتي، وذاتي الكون وعرض الوجود
أن أصيغ أحلامي، وأرقي، وأتحسس الليل وتهويداته الراقصة
لي أمنيةٌ
أن أكون
وأحيا
انا
(٥)
كنت أداري خوفي منذ سنين، أحاول إخفاءه عن الآخرين، انا أقوى من الخوف!
يتملكني الرعب من الزمن، أخشاه بكل إنسانيتي، بكل وعيي وإدراكي
الزمن غامض جدًا، عصي على الفهم، أضخم منا
هل أنا واقف وهو يلهث، أم انا ألهث وهو يحدق بي
عندما أدرك سرعة الأيام، والأسابيع والسنين، يتملكني خوف شديد، ربما هو صوت غريزة البقاء، والخوف من الفناء، أعلم بأنني إنسان، والإنسان كائن فاني غير خالد، لكن أنى لهذا الخوف أن يرحل؟
هذا الزمن، تمر أحداثه كلمحة، لم ألتفت إلا تلاشت وتبخرت
هذا الزمن يحولنا لذكريات برؤوس البشر، ربما يكتبنا شخص على حين شوق، يكتبنا ليتذكر نفسه معنا
هذا البعد الرابع الخفي، هل سنتحكم به، ونسير على ظهره، ونراه جلي أمامنا؟
(٦)
وما الزمان إلا خط لم يكتمل رسمه، تنزف ريشة الحاضر ليهرول الخط نحو الغاية، وما الكون إلا قصيدة تتمدد للأبد، وحياتنا رواية نجهل حبكتها وكل العقد، نسير بحثًا عن المعنى، بملامح الشخصيات والأماكن، نشتاق دومًا للنهاية، ونتحرق لإعادة البداية المستحيلة
وما خطواتنا إلا أهداف يتسع مداها كلما فاحت رائحة العمر الذي يحترق بيدنا كسيجارة سندفنها بالأرض عندما ننتهي منها، لكن بندم!
(٧)
ليت شعري ما المصير؟
تمشي بنا الدنيا. بلا هوان، أو خارطة نهتدي بها للطريق ... ما الطريق؟!
كلٌ يدعي حقا، والحق راحلٌ أبدا، غامض الملامح، لا يتبسم أو يحزن، جامد كالموت
طائرٌ لا يبتغي الأرض، جناحاه خذلاه، يلامس الأرض، كالجحيم يبحث عن خلاص منه، للهواء، للسماء، بالجناح الذي أنهكته المسافات والزمن
يمشي بغابة دون أشجار، أرهقته وحدة روحه بين اللاشيء، تحدق عيناه بالعتمة، يضحك .. يضحك لأنه لم يجد بئر يرمي به دلوه ليغرف من قانون السببية، لذلك يضحك بلا سبب، بلا أمل، يستخرج العطش من الصحراء، يتجرعه على مهل، الجفاف يكره العجلة لأنها من الشيطان، وهو منه
(٨)
اتهموني بسرقة يدي
لست انا السارق وحق الذي يجري دمائي فيَّ
كل ما في الأمر، انني كنت واقف، والليل يمشي على مهل، ساقاي نهشهما الظلام، عندما كنت راكض أتحسس الخلاص
جسدي لم يعد يقوى الدفاع، سقطت وحيدًا، بين أشواك، والعتمة تحدق بروحي، ليت أمي الأرض ساندتني، أرسلت شوكها، عقاب لأبنها العاق جدًا
رأيت كفي تضحي لأجلي، كدرع تصدت للأرض، للشوك، للعتمة، نزفت كثيرًا، لا أعلم لمَ، كل ما فعلت، انني رفعت رأسي، والسماء تثقب ما تبقى مني بنظراتها، لم يكن لدي إلا التأمل، والكثير من الاستسلام، لكنني حملت كفي التي قطعت، ولم أنسى الشوك، مشيت سريعًا، والآن أيها القاضي، وهيئة المحلفين، هاكم يدي التي حملتها، اقطعوها مرة أخرى، فإن السماء أرسلت إشاراتها، فانا السارق والمسروق، والله جعلني خليفة بهذه الأرض، لأنني لست ملاك بالسماء بلا خطايا، إنسان، هذا كل ما بالأمر ... كل ما بالأمر
(٩)
انني أغرق
أغرق
تحملني أكف العزف للحلم، تحلق بي أسفل الأرض، بين أرواح الذين مضوا دون أن يرفعوا أكف الوداع، ولا الدعاء، ولا الشتائم حتى
وأدنو للهواء أراقصه، أراقب حركاته، أجاريه وينهكني، ثم يندمج بصدري للأبد، للأبدً
أسمع همسات صوتها المبحوح، لا أفهم معاني هذه الحنجرة، أرى الدمع يعلو رأسًا للسماء، لمَ لا يسقط!
أرى الزمن سلسلة، لا أُميز بدايتها ولا نهايتها، دائرة مُفرغة، زواياها حادة بشكل غامض
أشعر بخفة بروحي، كأن يد الموت المحتم انتشلتها، لم أعد أشعر بجسدي المادي
هل الحياة حلم عنيد، نحسبه طويل جدًا، وعندما نستيقظ ونحكيه للآخرين لا تتجاوز الحكاية خمس دقائق
الوعي يقلص الزمن، يبتلع الساعات، يصفي الوهم
اتأمل أنفاسي، أنى لها الصمود كل هذه السنين؟! وهذا الجسد ذو المطالب التي لا تنتهي، حتى بعد رحيلي منه!
محموم بالاسئلة، وهذا العمر لا يسع استفهامات الروح
••••
(٠)
اللهم أرني حقيقة الأشياء كما هي
(٠)
رسالة لله
باسمك البداية والنهاية ،،
سيدي أتحسس الطريق ببصيرتي، بصري ضعُف منذ سنين، ولا أعلم مدى بصيرتي، فنحن لا نمتلك أجهزة تقيس حدة بصيرتنا، ربما بالمستقبل سيخترع حفيدي هذا الجهاز، نحن الآن نقيس بصيرة الآخرين بطريقة يدوية سهلة، كل من يخالف معتقداتنا وعباداتنا، فهو أعمى البصيرة، وقد ضل سواء السبيل.
رباه! كلما ظننت بأني أعتصمت بحبلك، أجدني حيث لا أعلم، تائه، مليء بالوجهة، خالٍ من الطرقات، أحدّق بالزمن، أرتجف خوفًا، أتدثر الحياة علّٓ خوفي يهدأ، تزداد وحدتي، وجهلي بالحياة، كلما إتسع الطريق وضاق صدري.
لست من الصالحين، ولا أنوي أن أكون منهم، لكنني -يالله- أحملك بقلبي أنى اتجهت.
اليوم قد حلمت حلم غريب، كنت أخوض حربًا باسمك، -وما أكثر هذه الحروب، كل الأطراف تدّعي ذلك- انتهيت منتصرًا، نجوّت بإعجوبة، مهمتي انتهت، وطلبت مني تسليم روحي لك، وهذا ما فعلت، مشيت، وشعرت بخفة عجيبة جميلة، فتحت يداي، وسلمت الأمانة لك، روحي، وكياني.
رباه! انا ذو شكٍ عظيم، ولا أُجيد إتباع الأولين، أجرجر بقايا يقيني، أقترب من بابك، أنزع تشردي، وألملم هروبي، أنصت للسماء، للمآذن والنواقيس، أتمسك بعروة الدعاء، أخشع لك بصوتي الذي وهبتني إياه، وأصل للعالم الأسمى، بعيد عن دنيا الشتات.
لم أعد أخشى الموت، ربما هو الجسر الممتد من العدم الواصل لك، بسدرة المنتهى، الموت هو الأمر الوحيد الذي لا اختيار به، ونحن نخشى الإختيار.
انا المحفوف بالصمت، ما حاجتي للغة، كي أوصل المعنى لخالق اللغة، والمطلق الوحيد، والمعنى.
(١)
الحياة عصيّة على الفهم، كل ما أمتلكه خُطاي، أُسابق الزمن، ويُخيفني بسرعته، لدرجة إني لا أستطيع الوقوف ولا الحراك، أترنح كأنني قصيدة نحتها الظلام والربكة، الآن أحاول الكتابة كي أتحسس الزمن الضبابي، وأحاصره بطوق من سراب، أنا الإنسان وبداخلي بيادق الوعي تود الهجوم، لكن الوجهة تمنعها، لأنها لم تُخلق بعد
هل نحن مجرد حكاية؟ وقصة تُغذي ذكريات أحفادنا، كي تُنير دربهم وليلهم الطويل، ويمجدوننا كأسطورة، ونُتخذ قدوة، والله أعلم هل هي حسنة أم الأحفاد حسنوها كي تتماشى مع مثالية الذين مضوا، ويصيح حفيدي الأحمق: "الله يرحم أيامك يا جدي"
(٢)
لا أعلم كم من الوقت مضى على آخر لقاء لنا، كل ما أعلمه الآن، ان القدر فرق بيننا، يا صديقي انا ابتعدت عن الأرض التي يسمونها "مسقط الرأس" وانت كذلك على ما يبدو، الآن سأكتب لك الرسائل بشكلٍ تقليدي، ورقة وقلم، واسمي بآخر الورقة، وتوقيعي بقربه، بالطبع ليس توقيعي البنكي، كما تعلم، انعدمت الثقة قبل أن تُوجد.
أكتب إليكَ الآن، والجبال تُحيط بي، انا ابن الساحل الذي يحمله معه أنى رحل وإرتحل، أفتقد البحر كثيرًا، أشتاق لموجه الغاضب، لرائحته التي تذكرني برائحة أنفاس الكون، أقمت علاقات جديدة مع الطبيعة، هنا حيث الجبال التي اتأملها من نافذة غرفتي، والأمطار التي تعكر صفو الكهرباء لتتعطل وتتأمل المطر معنا، معنا نحن البشر، وكأنها تصرخ بمُلئ أسلاكها: انا مثلكم بهذا الوجود وجود.
لا تخشى علي من تغير البيئة، فانا إنسان، والإنسان يتكيف بطبعه.
لا زلت اتأمل الطبيعة، والبشر، ونفسي، وكل يوم تزداد دهشتي، حيرتي، وتزداد ثورتي ورفضي اللذان تعرفهما، ومعاركي ضد الوجود لا زالت قائمة، بين كرٍ وفر، والنتيجة غامضة، عصيّة عن الفهم، كالوجود تمامًا.
أحمل أفكاري، وهي كما كانت، حزمة تناقضات متباينة، بها الشك واليقين، وقلبي متصوف، قديس بملامح زنديق، وعقلي متمرد ضد السكون والمعايير الباهته التي لم يأكل من الدهر لأنها بالية جدًا.
الغربة، هي ضرورية كما يبدو، توسع مدارك الإنسان، ومنظوره الضيق، تبرز ذاته كما هي، دون زخرف التراث العائلي، والاسم، او الإنتماء للبقعة التي أنجبته، هنا حيث تختلف أحلام الناس، ومخاوفهم، وطريقة معالجتهم للأمور، كيفية تعاملهم مع الأفكار، حيث تختلف المعايير، والمعايير كما تعلم، هي التي يبني عليها الإنسان أفعاله وأقواله، وضميره أمام الله ونفسه، هنا حيث تتضخم وتتضح نسبية المعايير أمام عقلي، ونسبية الجمال كذلك، ولا أنسى نسبية التغذية، التي يستاء منها الجسد بعد الإعتياد على عادات أكلية منذ طفولته.
عندما أرفع رأسي بالليل وأرى السماء، أشعر بالوحشة، ببعد المسافات، تنكمش روحي حتى تقترب للتلاشي، النجوم أكثر من المعتاد، بهذه السماء اكتشفت كمية الرعب بالعواصف الرعدية التي تضرب الأرض غاضبة.
محاط بالكثير من الكتب، أتنقل بين أعماق الفلسفة المظلمة بشكل مضيء، لعقد الروايات وحبكاتها المدهشة، للشعر وإتزان أحرفه، وضياع منطقيته، هو درعي ضد الوجود، ضد الوحشة والضياع، به مشاعر البشرية وحيرتها الموسيقيه التي تطرب أوتار صدري، وتنبش مابه، ليتضخم بشكل مرئي لذوي القلوب الثاقبة.
كما تعلم سجيتي لم تتغير، فانا اجتماعي مُنعزل، أخالط البشر من كل صنف، ثم أهرب من الجميع باحثًا عن نفسي، بين صفحات كتاب، وأصعد السلم الموسيقى وأهبط سريعًا، علّني أجدني هناك، لكنني أسكن ذاتي، وكل السماواتِ.
الذكريات هي هوية الإنسان، ووقود مصباح الحياة، هذا الكهف الأبدي للجسد والروح، بدونها هو لا شيء، شبح، كالحجر، وأضل سبيلا ...
الآن اشتدت أصوات الرعد، عاصفة تلقي التحية على ما يبدو، بطبيعة الحال، انقطعت الكهرباء، لذلك انا مضطر لترك هذه الرسالة فجأة، دون إتمامها، كالعمر الذي ينطفئ فجأة، إنطفأت الكهرباء، سأذهب لأشتم الكهرباء والأسلاك مع أبناء جيراني، هذا هو واجبي والخيار الوحيد.
مع التحية ،،،
(٣)
مفهومي انا للحياة ...
انا محارب، لا أعلم من أي طراز، عدوي وحليفي الوحيد، هو الوجود، سأكذب إن قلت بأني أمتلك مفهوم ثابت للحياة، نسبية الحياة، المعايير، المفاهيم، جعلتني لا أؤمن بأي شيء ثابت، عدا الله، المطلق الوحيد بهذا الوجود، ولا أعني الله المسلمين أو المسيحيين أو اليهود، أو غيرهم، أعني الله الذي يلم كل القلوب، لا يكترث للأسماء، للمذاهب، بالزخرف هذا الذي يقاتل عليه البشر، وجه الله الذي بكل مكان، بمسوح الزنادقه، وشتائم السكارى.
مفهومي للحياة نسبي، ومتغير، كمزاجي مثلي تمامًا، كل ماتقدمت بالعمر، بالترحال، أرى البشر، الطبيعة، يتغير فيَّ الكثير، أضع كل مسلماتي ومفاهيمي الفلسفية على طاولة النقاش، دون حكم مسبق، أُغير كل الخطط الوجوديه التي وضعتها، وأصيغها من جديد، روحي اكتسبت لياقة جيدة، لتحمل كل هذا، وإن كانت في بعض الأحيان تمر بمطبات وحفر وجوديه، أجد صعوبة بالخروج منها، أتحسس المعنى، أترقب الغاية، أنصت للعزف، أحاول معرفة السلم الموسيقي للحياة، أفهمه جيدًا، أستخرج منه المعنى، بتأويل، ورؤيا، لا أعلم مدى صحتها، بهذه النسبية، حيث لا ثبات، لا حزام أمان، حادث بسيط يمزقني أشلاء، دماء بكل مكان، وأقف ضاحكًا، باحثًا عني ذاتي، لأعيد تركيبها بما تبقى مني.
أراقب الوجود، وانا مستلقي بزاوية بعيدة، أبحث عن المعاني، برؤوس البشر، بحفيف الشجر، البحر محمل بالمعاني.
ببعض الأحيان، أحسد البشر، كيف يندمجون بهذه العاصفة، الحياة، بكل سلاسة دون سؤال، يغرقون بمتابعة فريق كرة قدم، أو تكوين أسرة، جمع مال، أو مطاردة سلع، دون وضع استفهام!
يضع الإنسان أهداف وأحلام مستحيلة التحقيق، لأنها إن تحققت سيبقى بلا هدف، بلا غاية، تائه بالوجود
(٤)
لي أمنيةٌ
أن أحتوي الكون كالهواء، أحيط به علما
وأن أصبح بحار أركب الموج، ولا أؤمن بأي مرساة
وأطير بحثًا عن جزيرة لم تُخلق إلا ببوح أوهامي
وأن أصبح فيلسوف وعى بالحقيقة، دون أن يعتزل الناس، ويعزف الناي، وروحه لم تغرق بلجة الحزن، ولم يتخذ العبث سترا
وأن أصبح كاتب، أكتب لنفسي، باحثًا عن ذاتي، ألملم حيرتها، دون أن أكتب "ما يطلبه المستمعون"
وأن أعيش ما تبقى من عمري رحال، دون استقرار
وأن أرسم العالم الذي بداخلي، بريشة ملهم مبدع، مع خلط الألوان، وأمزج كل الحقائق، والتناقضات المجتمعة بالخفاء
وأن أتصوّف وانا ذو شكٍ عظيم، لذلك أبتعد عن تكية الدراويش، وأحيا بين كل الطبقات ولكلها أحيا، دون ان أخضع وأستسلم، أعيش بذاتي، وذاتي الكون وعرض الوجود
أن أصيغ أحلامي، وأرقي، وأتحسس الليل وتهويداته الراقصة
لي أمنيةٌ
أن أكون
وأحيا
انا
(٥)
كنت أداري خوفي منذ سنين، أحاول إخفاءه عن الآخرين، انا أقوى من الخوف!
يتملكني الرعب من الزمن، أخشاه بكل إنسانيتي، بكل وعيي وإدراكي
الزمن غامض جدًا، عصي على الفهم، أضخم منا
هل أنا واقف وهو يلهث، أم انا ألهث وهو يحدق بي
عندما أدرك سرعة الأيام، والأسابيع والسنين، يتملكني خوف شديد، ربما هو صوت غريزة البقاء، والخوف من الفناء، أعلم بأنني إنسان، والإنسان كائن فاني غير خالد، لكن أنى لهذا الخوف أن يرحل؟
هذا الزمن، تمر أحداثه كلمحة، لم ألتفت إلا تلاشت وتبخرت
هذا الزمن يحولنا لذكريات برؤوس البشر، ربما يكتبنا شخص على حين شوق، يكتبنا ليتذكر نفسه معنا
هذا البعد الرابع الخفي، هل سنتحكم به، ونسير على ظهره، ونراه جلي أمامنا؟
(٦)
وما الزمان إلا خط لم يكتمل رسمه، تنزف ريشة الحاضر ليهرول الخط نحو الغاية، وما الكون إلا قصيدة تتمدد للأبد، وحياتنا رواية نجهل حبكتها وكل العقد، نسير بحثًا عن المعنى، بملامح الشخصيات والأماكن، نشتاق دومًا للنهاية، ونتحرق لإعادة البداية المستحيلة
وما خطواتنا إلا أهداف يتسع مداها كلما فاحت رائحة العمر الذي يحترق بيدنا كسيجارة سندفنها بالأرض عندما ننتهي منها، لكن بندم!
(٧)
ليت شعري ما المصير؟
تمشي بنا الدنيا. بلا هوان، أو خارطة نهتدي بها للطريق ... ما الطريق؟!
كلٌ يدعي حقا، والحق راحلٌ أبدا، غامض الملامح، لا يتبسم أو يحزن، جامد كالموت
طائرٌ لا يبتغي الأرض، جناحاه خذلاه، يلامس الأرض، كالجحيم يبحث عن خلاص منه، للهواء، للسماء، بالجناح الذي أنهكته المسافات والزمن
يمشي بغابة دون أشجار، أرهقته وحدة روحه بين اللاشيء، تحدق عيناه بالعتمة، يضحك .. يضحك لأنه لم يجد بئر يرمي به دلوه ليغرف من قانون السببية، لذلك يضحك بلا سبب، بلا أمل، يستخرج العطش من الصحراء، يتجرعه على مهل، الجفاف يكره العجلة لأنها من الشيطان، وهو منه
(٨)
اتهموني بسرقة يدي
لست انا السارق وحق الذي يجري دمائي فيَّ
كل ما في الأمر، انني كنت واقف، والليل يمشي على مهل، ساقاي نهشهما الظلام، عندما كنت راكض أتحسس الخلاص
جسدي لم يعد يقوى الدفاع، سقطت وحيدًا، بين أشواك، والعتمة تحدق بروحي، ليت أمي الأرض ساندتني، أرسلت شوكها، عقاب لأبنها العاق جدًا
رأيت كفي تضحي لأجلي، كدرع تصدت للأرض، للشوك، للعتمة، نزفت كثيرًا، لا أعلم لمَ، كل ما فعلت، انني رفعت رأسي، والسماء تثقب ما تبقى مني بنظراتها، لم يكن لدي إلا التأمل، والكثير من الاستسلام، لكنني حملت كفي التي قطعت، ولم أنسى الشوك، مشيت سريعًا، والآن أيها القاضي، وهيئة المحلفين، هاكم يدي التي حملتها، اقطعوها مرة أخرى، فإن السماء أرسلت إشاراتها، فانا السارق والمسروق، والله جعلني خليفة بهذه الأرض، لأنني لست ملاك بالسماء بلا خطايا، إنسان، هذا كل ما بالأمر ... كل ما بالأمر
(٩)
انني أغرق
أغرق
تحملني أكف العزف للحلم، تحلق بي أسفل الأرض، بين أرواح الذين مضوا دون أن يرفعوا أكف الوداع، ولا الدعاء، ولا الشتائم حتى
وأدنو للهواء أراقصه، أراقب حركاته، أجاريه وينهكني، ثم يندمج بصدري للأبد، للأبدً
أسمع همسات صوتها المبحوح، لا أفهم معاني هذه الحنجرة، أرى الدمع يعلو رأسًا للسماء، لمَ لا يسقط!
أرى الزمن سلسلة، لا أُميز بدايتها ولا نهايتها، دائرة مُفرغة، زواياها حادة بشكل غامض
أشعر بخفة بروحي، كأن يد الموت المحتم انتشلتها، لم أعد أشعر بجسدي المادي
هل الحياة حلم عنيد، نحسبه طويل جدًا، وعندما نستيقظ ونحكيه للآخرين لا تتجاوز الحكاية خمس دقائق
الوعي يقلص الزمن، يبتلع الساعات، يصفي الوهم
اتأمل أنفاسي، أنى لها الصمود كل هذه السنين؟! وهذا الجسد ذو المطالب التي لا تنتهي، حتى بعد رحيلي منه!
محموم بالاسئلة، وهذا العمر لا يسع استفهامات الروح
••••
(٠)
اللهم أرني حقيقة الأشياء كما هي