موسم الحصاد
وردة تستقبلك:
أحاول جاهدًا أن أحيل الكون لقصيدة، وأرى كل ظاهرة فيه كبيت من القصيدة، أبحث عن ألوان الجمال المكنون فيه، هذه اللوحة العظيمة جدًا، أستخرج المعنى من كل ضربة فرشاة، حتى وإن صغُرت، وكل إنسان فيها يمثل جزء من هذه البشرية، نموذج حي يستحق التأمل.
بئر:
أراني على الشاطئ، طفلٌ صغير تحمله إمرأة..
كيف لنصِ روايةٍ ياباني أن يأخذني الى أعمق ذكرياتي المدفونة، المدفونة عبر الزمن، رواية لشخص غريب، تُعيد لي ذكرياتي الشخصية! أراني على الشاطئ، طفلٌ صغير يرتدي "شورت" أصفر على مايبدو، بشرته بيضاء لطيف، تحمله إمرأة ترتدي عباءة، وبقربها يقف طفل أكبر من سابقه (أخي الأكبر على ما يبدو) يرتدي كذلك "شورت" بُني اللون، وأسفل أقدام الجميع مياه بحر الخليج العربي، يداعبهم بموجه الناعم، يمدّهم بالحياة، لا أنسى ذلك الرجل الذي يحمل آلة التصوير، كأني به يبتسم وقد انخفض قليلًا كي تكون الصورة أكثر إحترافية، انه أبي، لا يظهر بالصورة، لكنه الفنان الذي وقّف اللحظة والشعور، والحاضر بالقلب لا بالألوان المادية، أرى المشهد يعود لي الآن بكل تفاصيله وانا على شاطئ البحر الأحمر، أشتاق لرؤياهم جميعًا حاضرًا أكثر من ماضي، أضرب باصبعي على هاتفي لأتحدث مع أخي، لأذكره بالصورة والبحر ونحن كعائلة بسيطة سعيدة، ليصدمني بتذكره رهبة رؤية البحر لأول مرة، للشعور الهائل الذي يبثه البحر بالنفس الإنسان منذ فجر التاريخ، لا أعلم كيف لهذا النص الياباني أن يكشف كل هذا من ذاتي! هل أعماق البشرية واحدة لا تختلف إلا بالعناوين التي تُسمى أسماء.
عصفور:
كان الغناء الوسيلة الوحيدة لمواصلة المسير بالحياة، كل نوتة كانت تطير بهم للسماء، للفضاء، أجنحة الحرية، كالفراشة هاربين للضوء، العمال بوسط أعمالهم الشاقة، لا يطلبون الماء، بل أغنية تروي عطشهم الجمالي، تلوّن هذا الرماد مجددًا، تخلق من كل احتراق شمعة، هي ليست بترف، بل احتياج حقيقي، لا أعلم لمٓ غفل عنه ماسلو بهرمه! هذا الذوق الجمالي، الذي يحدد مسيرة الإنسان الأخلاقية حتى، وإن أراد الإنسان ايقاف الموسيقى تواصل الطبيعة معزوفتها الأزلية الرائعة، بالفجر، قبل شروق الشمس، تبدأ العصافير سمفونيتها البديعة، شيء مذهل بحق! تغرد بشكل جنوني وكأنها تستقبل الشمس مجددًا، تأملها يضعك بحيرة لذيذة، كنت دائمًا أسمع صوت أمي تغني وهي بوسط أعمالها المطبخية-المنزلية التي لا تنتهي، أراها تبث السعادة وتخلق المزاج التي تريده، تتحدى التعب والملل، أسمع صوتها من بعيد، أذهب لأرى وجهها المليء بالفرح، لأسمع هذه الألحان العفوية التي تغنيها لنفسها، للمنزل وكل قطعة به، تعامل كل شيء كأنه حي، وربما هي التي تبث بهم الحياة، تنسج الشعور كما تشتهي، تمتلك روح الفنان ونظرته، صبغ العالم بمنطق خاص فريد جميل.
وردة حمراء:
انني لا أعرف إلا القليل بهذه الحياة، لكن لدي يقين واحد، أحبكِ، أحتاج قربك الآن وإلى الأبد، هذا الفقد الذي يعتري صدري، حولي الكثير من الأشخاص، والأشياء، لكن كل هؤلاء بلا طعم، بلا لون، ما فائدة أن يبقى الإنسان بين أشخاص لا يفهمونه حق الفهم، أن أبقى مختبئ داخل نفسي، لا أستطيع اظهارها كما هي، أبقى سجين أفكاري، لا لساني ينطق بكل ما بداخل رأسي، ولا قلبي يخرج ولو جزء بسيط من مشاعره، تعلمت هكذا أن أحيا بين جميع البشر، أستكشف أعماقهم، لكني أتمسك بدرعي كل لا يخترق أعماقي أحد، أهرب منهم جميعًا فجأة دون سابق انذار، بعد أن كنت رفيق يقاسمهم الليل، ورغيف الخبز، وأكواب الشاي بلا سكر، وبعض من موسيقاهم، أتحمل العزف دون أن أصرخ ما هذا! هكذا أتبخر شوقًا لكِ انتِ، لا حواجز بيننا، تدخلين نفسي، تتصفحين أسرارها، قلقها، هواجسها، مخاوفها الوجودية، وكل أحلامي المجهولة، تقلبين شكي محاولة للفهم، تبحثين عن أرض ثابتة، لكن لا ثبات سواك، انني جناح لا يؤمن بالسكون، ريح السماء تعصف بي، وأعصف بها، حقًا أفتقد نفسي، أشتاقك كثيرًا، سأظل هكذا عالقًا بالوجود إلى أن يحين اللقاء مجددًا.
جذور:
أراني أطير فوق ترنيمة مقدسة، ألحانها أجنحتي، خفة اليقين تجذبني على مهلٍ، أرقص مع السماء، روحًا بروح، تتمايل الأكوان، نبض قلبي يُشير للأبدية، للسلام والطمأنينة، هناك في الحلم البعيد، بمدن المعنى، وعي من البلور يشع بما تبقى من أفكاري، أخرج من إطار الحياة، أقاوم هذا الانصهار الغاوي، أتحول لبخار لا يؤمن بجاذبية الأرض الخلابة، أرفرف بكل ما أوتيت من صمتٍ، أتشكّل بالفضاء، جرمٌ سماوي يرسل وهجه للأبد، حتى وإن رحل.
شجرة:
سهلٌ جدًا أن تبقى على قيد الحياة وتستنزف الأنفاس، ولكن من العسير أن تبقى على قيد الوجود، تحافظ على وهج دهشتك، ولياقة مرونتك الفكرية، وأن تبقى مسلحًا بـ(لا) التمرد، أن تحسّن من ذاتك دون أن تفقد هويتك، ألا يجرفك التيار البشري وتضيع بصمتك الروحية بعاصفة التاريخ، أن تحرس ألعاب الطفل بداخلك وأغانيه البريئة حتى وإن كٓهُلت ملامح جسدك، أن يبقى رأسك مرفوع للسماء، للنجوم، للكواكب، ولا تمرغ رأسك بتوافه الأرض التقليدية الموروثة دون أي تعليل وعلم لحقيقتها، والأهم أن يبقى الإنسان على قيد الحب، والحب ليس قيد بل جناح.
طين:
رباه انني أبتلع العتمة كلما واصلت المسير، مد لي رشفة يقين تروي روحي التائهة، ارحم شكّي، فإنني أتجرع المعرفة والعلم وتتسع دائرة جهلي، كيف يزداد عطشًا من يشرب الماء، ارسل لي مطرًا يرشدني الطريق، لطالما رددت كثيرًا، اللهم أرني حقيقة الأشياء كما هي، لا أعلم هل انا حقًا أراها كما هي، أم رؤيتي غارقة بالزيف الذي يزينه المنطق البالي، لا أعلم، هذا فقط ما أعلمه. لا أعلم
رباه ارزقني الجٓلد على حث الخطى بهذه الحياة، زد رصيد صبري، ودهشتي، حيرتي، وكل ارتباكه وتردد أحمله، ضاعف شكي، أفكاري بكل تناقضاتها الجلية
خفف خوفي من الزمن، الذي لا أعلم ما هيته، انني أخشاه كثيرًا، فأنا إنسان بسيط، أغرس الأبجدية ولا أحصد نص اكتمل نضجه.
غصن:
كم أفتقد صداقتنا الفكرية يا إيڤان، تلك النزاعات الحادة، والتنوع الدائم، وسرد الجمال واغتياله، لحظات السلام والمحبة، أتذكر كم نظرية خيالية بنينا بلا أمل، لا أنسى أبدًا أول نص قرأته لي، كان صوتك يرتجف محفوف بالحزن والخوف والفرح والرهبة، أعجبك كثيرًا، أنت الذي تقول لي دائمًا: حروفك ركيكة يا صديقي يجب أن يشتد عودها، لكن نبرة صوتك فضحت الأثر العميق الذي بعثر داخلك، لا زلت أقضي الليل بحثًا عن قصيدة أو نص يربكني، أو أن أبحث عن لون جديد من الموسيقى يبعث لي الدهشة مجددًا، تشتاقك الروح، أنت وليالينا معًا، ننسج من الظلام وهجًا صريح العدمية والعبثية، نلعب بكل جدية، نواجه المواقف الجدية بكل مرح كأنها لعبة ليمر الوقت، بين ذلك الترحال والتجارب التي كنا نقطعها، لا شيء هنا يا صديقي، عُد، أريد ذاتي.
بالمناسبة أتذكر عندما أتيتني بمنتصف الليل تركض فرحًا وتصرخ: وجدتها! وجدت الحقيقة المطلقة، ثم تسرد لي فكرتك لساعات طوال، ثم يبزغ الفجر ونضحك معًا على حماقتك وفكرتك الذي حطمناها معًا.
بذور:
منذ صرخة الروح التي اتبثقت لهذا الوجود، والإنسان يلهث بكل حنجرته بحثًا عن المعنى، يسير على حبل الزمان حتى يقيده على خارطة المجهول التي لا تُرى إلا بعد حتمية السكون الأبدي، انه مشدود بين الأرض والسماء، تقطعه المادية وتخنق أنفاسه الروحانية التي تكبل هذا الجسد الهش، اننا نعزف بنوتة العمر الذي ينزف كلما اشتد الوتر، نفتش عن أصل الإنسان كي نضع أنظمة نسير على خطاها بهذه الحياة، نخترع نظريات لا أصل لها سوى عقلنا الذي وضعنا منطقه السليم على حد علمنا الزهيد جدًا، أجسادنا قيد لهذه الروح، تمزق أجنحتنا كي لا نصل للسماء يومًا ما، السماء يارباه كم من نجم يضيئها، كم من عوالم هناك في الأفق البعيد، هل انا كائن وحيد بهذا الكون الذي يتوسع بشكل متسلسل للأبد، اننا نحصد الوعي من بذور الجهل، جهلنا الأبدي ودافعنا للبحث الغامض، للسير بطرق المعرفة المليئة بقسوة الشتاء، برد ووحدة لا ينتهيان، لا قرار ولا ثبات دائم، نحطم كل مسلمّة عقلية نؤمن بها، حتى نعود لدائرة الفكر، لهذا القلق الفكري الذي يلازمنا، في كل حياتنا وأحلامنا، يهاجمنا بغتة بكل عنف، يسرقنا من روتين الحياة اليومي الراكد، يحملنا لأعلى قمم المجهول!
رمل:
كنت أفكر كثيرًا، لماذا يكتب الإنسان رسالةً أخيرة، وماذا سأكتب انا حين يأتي موعد رسالتي؟ لا أعلم هل هذه آخر رسالةٍ لي أم أنها الأولى، كل ما أعلمه بأنني أود أن أصرخ عاليًا، وأبكي بكل دمي ثم أنفجر، أن أخرج طاقات البشرية التي ابتلعتها روحي منذ ملايين السنين، بعتمة الفضاء الضخم، أشعر بضجر الكون الممتد للأبدية، أفتش بين أروقة الوجود عن ديمومة تحتوي وحشة صدري، كل شيء متوقع الحدوث في رحلة الحياة الجميلة ربما، لا شيء يخرج عن الأمور المنطقية عندما تعي هذه المنطقية العبثية! ربما الوحدة أو الشعور بهذه الوحدة الذي هو أقسى منها هو طبيعة الإنسان منذ إنبثاقه على ظهر كوكبنا المليء بمليارات الكائنات البشرية وغير البشرية، شعور عميق يعتريني عندما أتأمل النجوم والكواكب، ذهول، وحشة، أمان، ضياع، حنين، فراغ وكأن الوجود ثُقب، تناقضات لا نهائية، انني أتوق لمعانقة السماء، عناق سرمدي، الى أن أتحول للوحة سريالية!
نظرة بالمرآة قبل الخروج:
أتذكر عندما اخترعت "أوكتاڤيو" كنت فعلًا أحتاج للخروج من ذاتي، للتجرد، أن أغدو لوحة سريالية، أن أرسم وجود جديد، لا يؤمن بمنطق، ألوان تخرج من نفسي نقية من كل شيء، وأول الأشياء انا ذاتي، اصهرها، انسلاخ عما كانت غارقة فيه، أن أبعد عن اسمي ومحيطي، أحلق بالسماء وحيد متأمل، كنت وقتها مصاب بحمى فكرية شديدة، أرق يومي، نوم لساعات قليلة يتخللها أحلام فلسفية أحلل فيها كل شيء، أضع جميع المفاهيم على طاولة النقاش، بلا رحمة تبدأ الموسيقى وتبدأ المحاكمة، صراع أزلي على ما يبدو، أن تبدأ بالنقش على الحجر الذي كنت تظن أن خاوٍ من الروح والفن، هو هكذا وفقط
وكم يحتاج النقش لعزلة داخلية، الوحدة هي كل ما يحيط بك، لا تشعر بمن حولك، بعد أن خلعت رداء الإنتماء، لا شيء يهم، أن تبقى أو ترحل، لا فرق، كل تركيزك ينصب بهذه اللوحة التي تحتاج كل حواسك، وكل ما تبقى من عمرك، ليست هباءً منثور، بل هي الإنجاز الأسمى، ومعيار الإنجاز نسبي لا تنسى ذلك، الجبان فقط هو الذي لا يلحق بدلوه إن سقط بالبئر، انني أكتب لنفسي، لأبحث عنها وبها، وكان أوكتاڤيو مجرد أداء، أحيانًا أشعر بأن صلاحيته انتهت، لكنه يصمد، يتجدد ويشكل الرمال كما يريد.
(لاتنسى أن تكتب شعورك بالتعليقات)
وردة تستقبلك:
أحاول جاهدًا أن أحيل الكون لقصيدة، وأرى كل ظاهرة فيه كبيت من القصيدة، أبحث عن ألوان الجمال المكنون فيه، هذه اللوحة العظيمة جدًا، أستخرج المعنى من كل ضربة فرشاة، حتى وإن صغُرت، وكل إنسان فيها يمثل جزء من هذه البشرية، نموذج حي يستحق التأمل.
بئر:
أراني على الشاطئ، طفلٌ صغير تحمله إمرأة..
كيف لنصِ روايةٍ ياباني أن يأخذني الى أعمق ذكرياتي المدفونة، المدفونة عبر الزمن، رواية لشخص غريب، تُعيد لي ذكرياتي الشخصية! أراني على الشاطئ، طفلٌ صغير يرتدي "شورت" أصفر على مايبدو، بشرته بيضاء لطيف، تحمله إمرأة ترتدي عباءة، وبقربها يقف طفل أكبر من سابقه (أخي الأكبر على ما يبدو) يرتدي كذلك "شورت" بُني اللون، وأسفل أقدام الجميع مياه بحر الخليج العربي، يداعبهم بموجه الناعم، يمدّهم بالحياة، لا أنسى ذلك الرجل الذي يحمل آلة التصوير، كأني به يبتسم وقد انخفض قليلًا كي تكون الصورة أكثر إحترافية، انه أبي، لا يظهر بالصورة، لكنه الفنان الذي وقّف اللحظة والشعور، والحاضر بالقلب لا بالألوان المادية، أرى المشهد يعود لي الآن بكل تفاصيله وانا على شاطئ البحر الأحمر، أشتاق لرؤياهم جميعًا حاضرًا أكثر من ماضي، أضرب باصبعي على هاتفي لأتحدث مع أخي، لأذكره بالصورة والبحر ونحن كعائلة بسيطة سعيدة، ليصدمني بتذكره رهبة رؤية البحر لأول مرة، للشعور الهائل الذي يبثه البحر بالنفس الإنسان منذ فجر التاريخ، لا أعلم كيف لهذا النص الياباني أن يكشف كل هذا من ذاتي! هل أعماق البشرية واحدة لا تختلف إلا بالعناوين التي تُسمى أسماء.
عصفور:
كان الغناء الوسيلة الوحيدة لمواصلة المسير بالحياة، كل نوتة كانت تطير بهم للسماء، للفضاء، أجنحة الحرية، كالفراشة هاربين للضوء، العمال بوسط أعمالهم الشاقة، لا يطلبون الماء، بل أغنية تروي عطشهم الجمالي، تلوّن هذا الرماد مجددًا، تخلق من كل احتراق شمعة، هي ليست بترف، بل احتياج حقيقي، لا أعلم لمٓ غفل عنه ماسلو بهرمه! هذا الذوق الجمالي، الذي يحدد مسيرة الإنسان الأخلاقية حتى، وإن أراد الإنسان ايقاف الموسيقى تواصل الطبيعة معزوفتها الأزلية الرائعة، بالفجر، قبل شروق الشمس، تبدأ العصافير سمفونيتها البديعة، شيء مذهل بحق! تغرد بشكل جنوني وكأنها تستقبل الشمس مجددًا، تأملها يضعك بحيرة لذيذة، كنت دائمًا أسمع صوت أمي تغني وهي بوسط أعمالها المطبخية-المنزلية التي لا تنتهي، أراها تبث السعادة وتخلق المزاج التي تريده، تتحدى التعب والملل، أسمع صوتها من بعيد، أذهب لأرى وجهها المليء بالفرح، لأسمع هذه الألحان العفوية التي تغنيها لنفسها، للمنزل وكل قطعة به، تعامل كل شيء كأنه حي، وربما هي التي تبث بهم الحياة، تنسج الشعور كما تشتهي، تمتلك روح الفنان ونظرته، صبغ العالم بمنطق خاص فريد جميل.
وردة حمراء:
انني لا أعرف إلا القليل بهذه الحياة، لكن لدي يقين واحد، أحبكِ، أحتاج قربك الآن وإلى الأبد، هذا الفقد الذي يعتري صدري، حولي الكثير من الأشخاص، والأشياء، لكن كل هؤلاء بلا طعم، بلا لون، ما فائدة أن يبقى الإنسان بين أشخاص لا يفهمونه حق الفهم، أن أبقى مختبئ داخل نفسي، لا أستطيع اظهارها كما هي، أبقى سجين أفكاري، لا لساني ينطق بكل ما بداخل رأسي، ولا قلبي يخرج ولو جزء بسيط من مشاعره، تعلمت هكذا أن أحيا بين جميع البشر، أستكشف أعماقهم، لكني أتمسك بدرعي كل لا يخترق أعماقي أحد، أهرب منهم جميعًا فجأة دون سابق انذار، بعد أن كنت رفيق يقاسمهم الليل، ورغيف الخبز، وأكواب الشاي بلا سكر، وبعض من موسيقاهم، أتحمل العزف دون أن أصرخ ما هذا! هكذا أتبخر شوقًا لكِ انتِ، لا حواجز بيننا، تدخلين نفسي، تتصفحين أسرارها، قلقها، هواجسها، مخاوفها الوجودية، وكل أحلامي المجهولة، تقلبين شكي محاولة للفهم، تبحثين عن أرض ثابتة، لكن لا ثبات سواك، انني جناح لا يؤمن بالسكون، ريح السماء تعصف بي، وأعصف بها، حقًا أفتقد نفسي، أشتاقك كثيرًا، سأظل هكذا عالقًا بالوجود إلى أن يحين اللقاء مجددًا.
جذور:
أراني أطير فوق ترنيمة مقدسة، ألحانها أجنحتي، خفة اليقين تجذبني على مهلٍ، أرقص مع السماء، روحًا بروح، تتمايل الأكوان، نبض قلبي يُشير للأبدية، للسلام والطمأنينة، هناك في الحلم البعيد، بمدن المعنى، وعي من البلور يشع بما تبقى من أفكاري، أخرج من إطار الحياة، أقاوم هذا الانصهار الغاوي، أتحول لبخار لا يؤمن بجاذبية الأرض الخلابة، أرفرف بكل ما أوتيت من صمتٍ، أتشكّل بالفضاء، جرمٌ سماوي يرسل وهجه للأبد، حتى وإن رحل.
شجرة:
سهلٌ جدًا أن تبقى على قيد الحياة وتستنزف الأنفاس، ولكن من العسير أن تبقى على قيد الوجود، تحافظ على وهج دهشتك، ولياقة مرونتك الفكرية، وأن تبقى مسلحًا بـ(لا) التمرد، أن تحسّن من ذاتك دون أن تفقد هويتك، ألا يجرفك التيار البشري وتضيع بصمتك الروحية بعاصفة التاريخ، أن تحرس ألعاب الطفل بداخلك وأغانيه البريئة حتى وإن كٓهُلت ملامح جسدك، أن يبقى رأسك مرفوع للسماء، للنجوم، للكواكب، ولا تمرغ رأسك بتوافه الأرض التقليدية الموروثة دون أي تعليل وعلم لحقيقتها، والأهم أن يبقى الإنسان على قيد الحب، والحب ليس قيد بل جناح.
طين:
رباه انني أبتلع العتمة كلما واصلت المسير، مد لي رشفة يقين تروي روحي التائهة، ارحم شكّي، فإنني أتجرع المعرفة والعلم وتتسع دائرة جهلي، كيف يزداد عطشًا من يشرب الماء، ارسل لي مطرًا يرشدني الطريق، لطالما رددت كثيرًا، اللهم أرني حقيقة الأشياء كما هي، لا أعلم هل انا حقًا أراها كما هي، أم رؤيتي غارقة بالزيف الذي يزينه المنطق البالي، لا أعلم، هذا فقط ما أعلمه. لا أعلم
رباه ارزقني الجٓلد على حث الخطى بهذه الحياة، زد رصيد صبري، ودهشتي، حيرتي، وكل ارتباكه وتردد أحمله، ضاعف شكي، أفكاري بكل تناقضاتها الجلية
خفف خوفي من الزمن، الذي لا أعلم ما هيته، انني أخشاه كثيرًا، فأنا إنسان بسيط، أغرس الأبجدية ولا أحصد نص اكتمل نضجه.
غصن:
كم أفتقد صداقتنا الفكرية يا إيڤان، تلك النزاعات الحادة، والتنوع الدائم، وسرد الجمال واغتياله، لحظات السلام والمحبة، أتذكر كم نظرية خيالية بنينا بلا أمل، لا أنسى أبدًا أول نص قرأته لي، كان صوتك يرتجف محفوف بالحزن والخوف والفرح والرهبة، أعجبك كثيرًا، أنت الذي تقول لي دائمًا: حروفك ركيكة يا صديقي يجب أن يشتد عودها، لكن نبرة صوتك فضحت الأثر العميق الذي بعثر داخلك، لا زلت أقضي الليل بحثًا عن قصيدة أو نص يربكني، أو أن أبحث عن لون جديد من الموسيقى يبعث لي الدهشة مجددًا، تشتاقك الروح، أنت وليالينا معًا، ننسج من الظلام وهجًا صريح العدمية والعبثية، نلعب بكل جدية، نواجه المواقف الجدية بكل مرح كأنها لعبة ليمر الوقت، بين ذلك الترحال والتجارب التي كنا نقطعها، لا شيء هنا يا صديقي، عُد، أريد ذاتي.
بالمناسبة أتذكر عندما أتيتني بمنتصف الليل تركض فرحًا وتصرخ: وجدتها! وجدت الحقيقة المطلقة، ثم تسرد لي فكرتك لساعات طوال، ثم يبزغ الفجر ونضحك معًا على حماقتك وفكرتك الذي حطمناها معًا.
بذور:
منذ صرخة الروح التي اتبثقت لهذا الوجود، والإنسان يلهث بكل حنجرته بحثًا عن المعنى، يسير على حبل الزمان حتى يقيده على خارطة المجهول التي لا تُرى إلا بعد حتمية السكون الأبدي، انه مشدود بين الأرض والسماء، تقطعه المادية وتخنق أنفاسه الروحانية التي تكبل هذا الجسد الهش، اننا نعزف بنوتة العمر الذي ينزف كلما اشتد الوتر، نفتش عن أصل الإنسان كي نضع أنظمة نسير على خطاها بهذه الحياة، نخترع نظريات لا أصل لها سوى عقلنا الذي وضعنا منطقه السليم على حد علمنا الزهيد جدًا، أجسادنا قيد لهذه الروح، تمزق أجنحتنا كي لا نصل للسماء يومًا ما، السماء يارباه كم من نجم يضيئها، كم من عوالم هناك في الأفق البعيد، هل انا كائن وحيد بهذا الكون الذي يتوسع بشكل متسلسل للأبد، اننا نحصد الوعي من بذور الجهل، جهلنا الأبدي ودافعنا للبحث الغامض، للسير بطرق المعرفة المليئة بقسوة الشتاء، برد ووحدة لا ينتهيان، لا قرار ولا ثبات دائم، نحطم كل مسلمّة عقلية نؤمن بها، حتى نعود لدائرة الفكر، لهذا القلق الفكري الذي يلازمنا، في كل حياتنا وأحلامنا، يهاجمنا بغتة بكل عنف، يسرقنا من روتين الحياة اليومي الراكد، يحملنا لأعلى قمم المجهول!
رمل:
كنت أفكر كثيرًا، لماذا يكتب الإنسان رسالةً أخيرة، وماذا سأكتب انا حين يأتي موعد رسالتي؟ لا أعلم هل هذه آخر رسالةٍ لي أم أنها الأولى، كل ما أعلمه بأنني أود أن أصرخ عاليًا، وأبكي بكل دمي ثم أنفجر، أن أخرج طاقات البشرية التي ابتلعتها روحي منذ ملايين السنين، بعتمة الفضاء الضخم، أشعر بضجر الكون الممتد للأبدية، أفتش بين أروقة الوجود عن ديمومة تحتوي وحشة صدري، كل شيء متوقع الحدوث في رحلة الحياة الجميلة ربما، لا شيء يخرج عن الأمور المنطقية عندما تعي هذه المنطقية العبثية! ربما الوحدة أو الشعور بهذه الوحدة الذي هو أقسى منها هو طبيعة الإنسان منذ إنبثاقه على ظهر كوكبنا المليء بمليارات الكائنات البشرية وغير البشرية، شعور عميق يعتريني عندما أتأمل النجوم والكواكب، ذهول، وحشة، أمان، ضياع، حنين، فراغ وكأن الوجود ثُقب، تناقضات لا نهائية، انني أتوق لمعانقة السماء، عناق سرمدي، الى أن أتحول للوحة سريالية!
نظرة بالمرآة قبل الخروج:
أتذكر عندما اخترعت "أوكتاڤيو" كنت فعلًا أحتاج للخروج من ذاتي، للتجرد، أن أغدو لوحة سريالية، أن أرسم وجود جديد، لا يؤمن بمنطق، ألوان تخرج من نفسي نقية من كل شيء، وأول الأشياء انا ذاتي، اصهرها، انسلاخ عما كانت غارقة فيه، أن أبعد عن اسمي ومحيطي، أحلق بالسماء وحيد متأمل، كنت وقتها مصاب بحمى فكرية شديدة، أرق يومي، نوم لساعات قليلة يتخللها أحلام فلسفية أحلل فيها كل شيء، أضع جميع المفاهيم على طاولة النقاش، بلا رحمة تبدأ الموسيقى وتبدأ المحاكمة، صراع أزلي على ما يبدو، أن تبدأ بالنقش على الحجر الذي كنت تظن أن خاوٍ من الروح والفن، هو هكذا وفقط
وكم يحتاج النقش لعزلة داخلية، الوحدة هي كل ما يحيط بك، لا تشعر بمن حولك، بعد أن خلعت رداء الإنتماء، لا شيء يهم، أن تبقى أو ترحل، لا فرق، كل تركيزك ينصب بهذه اللوحة التي تحتاج كل حواسك، وكل ما تبقى من عمرك، ليست هباءً منثور، بل هي الإنجاز الأسمى، ومعيار الإنجاز نسبي لا تنسى ذلك، الجبان فقط هو الذي لا يلحق بدلوه إن سقط بالبئر، انني أكتب لنفسي، لأبحث عنها وبها، وكان أوكتاڤيو مجرد أداء، أحيانًا أشعر بأن صلاحيته انتهت، لكنه يصمد، يتجدد ويشكل الرمال كما يريد.
(لاتنسى أن تكتب شعورك بالتعليقات)