السبت، 3 ديسمبر 2016

أشعة خيوط الزمن



تشير الساعة الى السادسة وست دقائق، لمٓ انا مستيقظ في يوم السبت، انه يوم إجازة وبالأمس سهرت كثيرًا مع الأصدقاء، حتى الفجر، تجاذبنا أطراف الحديث والشواء، تأملنا البحر كثيرًا، وتجمّدنا ببرد الهواء، الآن أحاول فتح عيني بصعوبة، أقوم بكل كسل ونشاط في آن واحد، أغسل وجهي وأرى ملامحي بالمرآة، أفتح عيناي على أشدهما من الصدمة! صدمة وعي ربما، انني أكبر مما أعي، لستُ كهل بالتأكيد، كيف وصلت لهذا العمر والشكل ومتى!

ست سنوات مضت الآن منذ خرجت من منزلنا لأول مرة لمكان بعيد (نسبيًا وقتها) خرجت وأمي وأبي يخشون علي من مواجهة الحياة، انا ذلك الفتى الذي كان يعتبر مسافة ٤٠ كيلو بعيدة جدًا، الآن انا بعيد ١٥٠٠ كيلو.
وركبت طائرات لساعات طويلة قاطع آلاف الأميال، اكتشف الحياة، أصقل فلسفلتي، أجرد ذاتي مما ورثت، ومما لم ترث!

اتسع منظوري للكون، للمفاهيم والمعتقدات، خالطت الكثير من البشر، تجاذبت المعنى مع الكثير من اللغات، والأكثر من العقول المتفاوته، نسبية الحقيقية تضخّمت عندي بشكل هائل جدًا، وكأنها هي الحقيقة المطلقة.

تمرّ الأيام كالضوء سريعة، وأفكاري ومعتقداتي لا تعرف طريق الثبات، كأنها رقصة أبدية، لا تشير الى شيء، وتشير لكل شيء، المسلمات العقلية في حرب دائمة، لا تعرف السلم.

أتيه في تأملاتي، أذهب للمطبخ لأصنع قهوة، القهوة التي لم أشربها منذ مدة، أخرج لأرى بداية الحياة، الصباح، بدء الكون، وبدء تكويني الغامض الخفي، عندما خفت حرارة القهوة شربت منها قليل، طعمها مرّ جدًا، لأول مرة أعلم انها جلدٌ للذات على التحمل، انا الذي كنت أتجرعها بكل هوٓس جنوني، بالرغم من ذلك أكمل القهوة، وأتذكر أصدقائي (الذين أصبحوا الآن قدامى) كيف كنا نجلس ونمزّق الأفكار يومًا بعد يوم، الآن أراهم بزيارات متقطعة، وأهلي كذلك، أزورهم كالضيف السريع، هكذا أظهر فجأة ولمحة كالغريب ثم أختفي لأيام أطوّل، الآن لدي أصدقاء من مناطق لم أعلم بوجودها على الخارطة حتى، وأماكن أخرى كنت أعرف اسمها فقط.

هذه الأعوام كانت تشكّلني، ولم تنتهي من ذلك، مررت بمراحل فكرية كثيرة، ونفسية أكثير، فقدت الكثير، وكسبت الأكثر (ربما) ولم أنتهي بعد، لا زلت على قيد الحياة، وقيد التغيّر والأبدي، كلي يقين بأننا جزء من الكون، جزء لا يستهان به مهما صغر حجمه، لذلك نحن ننمو كلما قطّعتنا الثواني، كلما فر من أيدينا الزمن، يسقط شيء منا، ربما لنا!

الجمعة، 7 أكتوبر 2016

رصاصة الوعي

(0) ​ توطئة:
-         لماذا ندوّن ياصديقي؟ هل لنزيح غيمة الحزن عن صدرنا المتآكل، أم لنرسم وجود أبدي لذاتنا الراحلة للمجهول الهامد.
-         أتعلم لطالما نظرت للكتابة كفعل إنساني مجرد، أعتقد بأنها ضرورة روحية بالدرجة الأولى.
-         كتابتنا مجوفة فارغة لدرجة اننا أصبحنا نكتب عن الكتابة، هل غاية الكتابة تعريف ذاتها! انني متناقض وهذا جلي وواضح جدًا، وهذه هي الحقيقة.
-         هل الحداثة سرقت المعنى والروح من كل شيء! هل تضخمنا كي نمتلئ بالفراغ الهش.

(1) اختلاس نظر:
متمسكٌ بعروة الصمتِ، لأصل لصومعة ذاتي، حيث الطريق يبدأ منّي إليّٓ، لأمكث بعاصفة العزلة، أرسم خارطة اليقين والسلام.
انني كالليل منفيٌ بالظلام، أتجرع السماء عذبة دون أن يقيدني المكان، حدقة الزمن تبتلعني بلا رجاء، أنزف بحثًا عن الحبر الذي انبثق من روحي، تتسرب ذاتي تائهة بالوجود، مخلصة للعدم الذي أثقل نورها، ناديت بملئ دمي: رباه! انتشلني من عتمتي، فالفجر أضاع خارطة الكون، والإنسان استقر بظل الحياة، يخشى تجرع الوعي، وأن يرسم خطيئة الكلمة، أن ينزف لتأويل رموز الرياح، انها غضب الحراك "لا تمكثوا هنا" اشعلوا وهج الفكرة تهطل لكم عملا.

كيف سننمو دون أن ننغرس بالأعماق.

(2) خروج وربما بداية:
على الشاطئ أجلس وحدي على الرمال، يميني رجلٌ توجه للقبلة يُصلي لرب السماء، والكثير من البشر مثلي، ننظر للبحر، للأفق الذي لا ينتهي، نحدّق بالعدم، بهذه الحتمية التي لا منطقية بها، ننصت لمعزوفة الموج الي تراقصها الرياح، غروب الحياة للمساء، هروب أشعة الشمس من كوكب الأرض، ثم ماذا! تهرب أرواحنا كي نبقى جثث هامدة، وراء المجهول نتساءل ما الحياة؟ وما بعدها؟ موكب البشرية يسير مكبل الأجنحة، يحمل أثقال التاريخ ليصبح مجرد رقم يعانق الصفر من جديد.

(3)
منذ صرخة الروح التي انبثقت لهذا الوجود، والإنسان يلهث بكل حنجرته بحثًا عن المعنى، يسير على حبل الزمان حتى يقيده على خارطة المجهول التي لا تُرى إلا بعد حتمية السكون الأبدي، انه مشدود بين الأرض والسماء، تقطعه المادية وتخنق أنفاسه الروحانية التي تكبل هذا الجسد الهش، اننا نعزف بنوتة العمر الذي ينزف كلما اشتد الوتر، نفتش عن أصل الإنسان كي نضع أنظمة نسير على خطاها بهذه الحياة، نخترع نظريات لا أصل لها سوى عقلنا الذي وضعنا منطقه السليم على حد علمنا الزهيد جدًا، أجسادنا قيد لهذه الروح، تمزق أجنحتنا كي لا نصل للسماء يومًا ما، السماء يارباه كم من نجم يضيئها، كم من عوالم هناك في الأفق البعيد، هل انا كائن وحيد بهذا الكون الذي يتوسع بشكل متسلسل للأبد، اننا نحصد الوعي من بذور الجهل، جهلنا الأبدي ودافعنا للبحث الغامض، للسير بطرق المعرفة المليئة بقسوة الشتاء، برد ووحدة لا ينتهيان، لا قرار ولا ثبات دائم، نحطم كل مسلمّة عقلية نؤمن بها، حتى نعود لدائرة الفكر، لهذا القلق الفكري الذي يلازمنا، في كل حياتنا وأحلامنا، يهاجمنا بغتة بكل عنف، يسرقنا من روتين الحياة اليومي الراكد، يحملنا لأعلى قمم المجهول!

(4)
هلِعٌ قلِقٌ من الحياة يركض خلف فتات السنوات الآتية يجمع حزمة الأيام كي يصفي له الصفر الحتمي، أفكار تهاجم عقله كجنود همجية لا تعرف النظام لكنها بارعة بالدمار الأزلي، من يخلق الدمار؟ النظام أم العبثية والهمجية، أو كلاهما لكن الأول محترف بحيث لا يراه المبصرون، والآخر أحمق لا يعرف سبيل لإخفاء ما بداخله من دوافع هدّامة، انني محاط بالأسئلة وشتات الأفكار الحالمة، ما الحلم يا رباه وأين الحقيقة منه، لماذا نعمّر الأرض للفناء؟ ونستنزف العمر لمن سيأتون لغاية الرحيل الأبدي، هذه الحياة عصيّة عن الفهم، والمعضلة الحقة عندما نصل للفهم، نعود للصفر فجأة على حين غفلة من وعينا الذي يرتدي حلة التنوّر المعتم، العتمة يا رباه ولّدتها أشعة النور الذي سرقها الظل دون خارطة للهروب، ربما السير دون غاية مطلب الإنسانية هنا، لا نبوح به خجلًا من أن يظنون بأننا حمقى نسير بلا هدى، أين سواء السبيل الذي لم نضعه لأننا لم نراه ونعرفه في البداية أصلًا، كيف نفقد ما لم نملك، لا نملك حتى أنفسنا، نحمل خطانا التي هي خلاصنا الوحيد من السكون، نجرجر المسافات كي تنمو أرواحنا بيقين التجربة، وننبهر بمعزوفة الكون التي تحلق بأجنحة دون أوتار وسماء، نحن نظرية بمعادلة خفية الأرقام، مليئة باللغة التي تسيّر كل ما نريد وما لا نريد، هل الإرادة غاية وهمية! ام الوهم غطاء نتدثر به كي يقينا برد الوجود القارص، انها رحلة المعرفة، حيث تسير وحيد بغابة ضخمة مليئة بالثلوج والأكثر من بقايا الشجر والبشر، نبحث عن حاضرنا بالماضي السحيق، آلاف الأعوام مرت ملايين المفكرين رحلوا، الأكثر سقط من ذاكرة البشرية، وبقى القليل، ولا زالت الأفكار الفلسفية تهاجم الإنسان بضراوة وكأنها حرب مقدسة لا تنتهي إلا بنفي الطرف الآخر لعالم الأموات، نمجّد الموتى ولا نلتفت لما يفعل الأحياء إلا عندما يرحلوا من بين أيدينا، نعظّم ما فعلوا وما قالوا بعد أن يعانقهم الصمت المحدّق بنا، كيف لأجنحة الإنسان أن تحلق وهو مثقلٌ بالتاريخ وغبار الأماكن التي خلفها الماضون والمارون هنا، عندما لم يكن هنالك طريق يسمى حقيقة مسلٓمٌ بها نسير على هديها كي لا نضل طريق السماء، السماء التي تنمو بأعماقنا كلما تلاشى عزف الأرض بصدرنا.

(5)
هل نستطيع سحب رصاصة الوعي ومعانقة براءة الحياة مجددًا، العودة للملائكية، حيث نظرتنا تداعب بياض الثلج، نتراقص بلا خوف من السقوط أو التعب، دون المشي بحذر كي لا يكبلنا الموت حتى نتلاشى، لا تقيدنا قوانين وأنظمة تخنق روح الإبداع التي بثها الإله فينا، نعزف على الأرض بخطواتنا حتى تنتشر ألوان البهجة بالنفوس، نفوسنا التي تراقب عقارب الساعة بخوف أن تكف عن الحراك، نفعل كل شيء لنثبت وجودنا على هذا الوجود، وما الإنجاز إلا إثبات الذات للذات، ليذهل بها الآخر وتنمو الثقة بصدورنا، لنجد الله بنبضنا، ونحطم الأصنام التي تقف كعائق روحي، صنم الانتماء، وأصنام كثيرة كالمجتمع والعادات وما تحمله الأديان من شوائب والصنم الأكبر هو ذاتنا التي تميل لرياح الغرور، رغم هشاشة إنسانيتها، وانصهار البصيرة المضللة، والتواء الحقيقة بين ألسنة البشر وماتحمله الكتب من نظريات وقوانين لا يثبتها شيء غير براهين الوهم المحدق بنا، ما نحن ومسيرة التاريخ البشري الضخمة، هل نحن وقود أم عجلة أو ربما أرض خصبة ينمو بها الحرف دون قافية وتأويل، إنما الحياة رحلة بحثٍ عن المعنى، وقلمٌ سأتركه الآن دون سبب منطقي.

(6) رؤيا
اني شهدتُ ولادة النص الأولى، انفجار الكلمات العظيم، رأيت أكف السماء ترسم حدود الكون، تزرع المعنى، محكمة الوجود تستجوب الجبل عن الأمانة، ويقف الإنسان شامخ يحملها على كاهله الهش، لترحل الجبال بصك البراءة، ويبقى الإنسان ذو شك مع سبق الإصرار، لتنمو أعماقه بكل الاتجاهات، لا تؤمن بأي حدود، كالأوهام هي الرؤيا تمتد وتشكّل كل ما تراه لتصبح مسلمة عقلية بديهية، نحن صنعنا المنطق كي نطلق الأحكام بدليل قطعي، نحن الأدلة والبراهين، سنصبح خرافة أسطورية ساذجة يسخر منا أحفادنا، نرتدي المعرفة كي تقينا برد العالم المجهول، نشعل حطب العقل ونتدثر الأفكار، نحن المسافة بالنسبة للزمن يقطّعنا كي يمر، هذه الدائرة الغامضة، تشير للأبدية بإصبع العدم، هذه البشرية لا تملك سوى الطريق، تستعجله كي يمر منها ثم يدفنها باردة هامدة، الى أن تمطر السماء وعي من يقين، وتخترق العين الظلام، تفضح ملامحه الخفية منذ فجر التكوين، ان الحرية تسير نحوي كي أختار مخاوفي التي تتحكم بأدق تفاصيل حياتي، الخوف هو حجر الأساس بحياة الإنسان، هو البندقية والدرع، الربكة والطمأنينة، الضحكة والرقصات، معزوفة عبثية متناسقة التركيب، اللغة حاجز يقيد الإنسان، يضيّق منظوره الواسع للكون، نزرع بذور الشعور كي تنمو بداخلنا، وما نحن إلا الشعور، المعنى والحب والحياة، هذا الليل، والمعزوفة الأبدية للنجوم، تشعرني بضآلتي، وتضخم الشعور بقلبي، بالرهبة، بالاطمئنان، تناقضات بعدد النجوم وأكثر.


(7)
مصفد باللغة، أتجرع الصمت على مهل، دون همس أتدثر شرنقة اليقين، أتحسس المشاة على الطريق، انني الوجهة والمسافة، مابين الزمن والأبدية، هناك لا تنظر، اشعل بقايا البصيرة ودع قلبك يرسم خارطة الوجود ثم يحمل ما تبقى من خُطاك على هذه الأرض ويمسك يد العمر ويرشده ضفة المجهول، عيناك أضيق من أن ترى، ازرع بذور الشعور بصدرك كي تُزهر روحك، اننا محض روح وجسد والكثير من الشعور، لا تعيق معزوفة التاريخ، تخفف من الموروث، اخلع غبار الذكريات، ارسم أفكارك بألوان تصنعها يدك، السقف خرافة والحدود وهم، انت الحقيقة، زد سنوات أنفاسك بالتجربة، استنشق الحركة التي تجري بكيانك، السماء مظلتك، الأرض صومعتك، انك بستان ينمو على ضوء القمر.


(8)
كأنني حلمٌ بلا بستان، أعزف الليل عِشقًا دون برهانِ، أجثوا قرب جسدي، أدثره بالأرق، ثم أسير وأسير، للسماء، أرسم حدود الكون، أتأمل فلسفتي التي أتشحت بالتجربة، تعمّق البُعد واتسعت بؤرة المفاهيم، ما العادة إلا وهم رسمه السابقون وقدسناه كحدود لا يوجد بعدها سوى الفراغ والمستحيل، هل سألت الأرض يومًا: لمٓ يقيد المجتمع الإنسان بآليات خاوية من المعنى، هل هو كائنٌ تقني بالدرجة الأولى! يعمل كجهاز وأرقام منطقية لا تبحث عن المشاعر فقط الصورة الشكلية والناتج النهائي، دون أن يعيش اللحظة، أن يستمع بطريق الرحلة، اننا الغاية القصوى والوسيلة الأولى، هل يعقل عندما رفعوا راية الإنسانية سقط الإنسان الكامن فيهم! نبني قصورًا من التاريخ كي تتشبع الذاكرة المتقدة بالحياة، وما الإنسان إلا ذكرياته وما يحيا، يتراجع عمر الكائن البشري للصفر عندما يكف عن التجربة والاستكشاف، عندما تكف مشاعره عن الاشتعال بالدهشة، ويقف عقله عن السؤال، عندما يتخم بالسكون الأبدي، عندها فقط يسقط بالعدم الأبدي، دون أمل.

 (0)نافذة تعلن الهبوط للسماء:

انني المكان وما تبقى من أغصان السنديان، وسر أبى أن يموت لأنه لم يولد بعد بوعي البشرية، ظاهر كتلويح أكف العابرين، خالٍ من المعنى قابلٌ لكل تأويل، دون أن يمسوا نسيم الحقيقة، أتدثر سكون الطبيعة، متوغل في الصمت، في الثرثرة، ألملم السلام المتبقي بروحي، أستنشقه كي أطير، للكون، للسماء ... أطير

الخميس، 24 مارس 2016

محاورة فلسفية


توطئة: عندما تكتمل دائرة عمري الزمنية بهذه الحياة، أخشى أن أسقط من ذاكرة الوجود وأتلاشى بالعدم وكأني لم أكن، لذلك انا أكتب الآن.

عندما كنت مسافر لليونان، زرت أثينا، رأيت كهل يسير ولا يكف عن السؤال، دنوت منه لأتأكد من هويته همست: هل انت سقراط؟
أجابني مبتسمًا: نعم، يدعونني سقراط، ولا زلت أبحث عن ذاتي بذاتي.
- كم بلغت من العمر؟
- بلغت من الوعي ثلاثة آلاف من السنين وأكثر من الوعي البشري.
- انني بالكاد أحمل سنين عمري الـ ...
- لا يهم، تكلم حتى أراك.
- بالمناسبة انا أوكتافيو، وإن لم تسأل، لماذا تريدني أن أتكلم، وأكذب، هل الحقيقة كذبة، والحقيقة أن لا حقيقة.
- انك شاب مفعم بالحياة، متحمس للجدل، للسفسطة، مغرور بقوة جسدك، تريد الاستكشاف، وتظن بإمكانك فهم هذا الوجود والتحكم به.
- هه! عبقري جدًا، أتعلم ما هو السر في عبقريتك؟ انك لم تكتب حرف واحد، كنت نتشر الاستفهامات، تتمشى بالطرقات، ثم تجرعت السم ورحلت، وأصبحت بطل خارق، مقدس جدًا بالنسبة للأطفال الذين كانوا يسيرون خلفك بالطرقات، مثل أفلاطون، بدافع الحزن، والملل بدأ يكتب بلسانك أفكار عظيمة جدًا، انك نص مفتوح، قابل للتأويل، والتضخيم.
- يا بني، انني فيلسوف حياة، أحيا كل دقيقة بعمري، لا أمتلك قلم وأوراق، كل أمتلكه هو الطرقات وخطاي، لم أخطط لموت بطولي كما تعلم ...
- هه موتك! ظننته لأجل المعرفة والإنسانية، لكنه كان لأجل السياسية، السياسة هي المسيطرة على كل الأمور، أتعلم كم ذرفت من الدمع عندما قرأت التحفة الأدبية التي كتبها أفلاطون العزيز عن قصة موتك، وتجمع تلاميذ حولك بالسجن، والسجّان .. آه كم تأسف لأجلك هذا الفتى الصالح، بالمناسبة أين أفلاطون؟
- للحديث والجدل آداب وأولها أن ....
- أعلم أعلم .. دلني أين يمكن أن القى أفلاطون وكفى.
- بالأكاديمية تقدم هناك لمدة خمس دقائق وستصل.
- حسنا، وداعًا، سئمت الحديث مع الكهول الذين يدعون معرفة الكون أفضل منا ونحن مجرد أطفال حمقى بالنسبة لهم.
بالتأكيد هذا هو أفلاطون، ذو الرداء الفضفاض، والمنكبين العريضين، ظننته أضخم وأوسم

- عمت صباحًا أيها المعلم.
- عمت صباحًا، أهلا بك.
- انني معلم ونبيٌ مثلك.
- ملامحك تشير بأنك من بلد بعيد عن هنا.
- نعم، بعيد جدًا، حيث الشرق العظيم، لكن بلادي ليست ببعد مدينتك الفاضلة.
- سترى عظمة هذه الجمهورية عندما يمسك دفة الحكم الملك الفيلسوف ...
- انها تمطر! 
- دعنا ندخل الأكاديمية ونكمل حوارنا، كي لا نتبلل ونصاب بالبرد.
- أشكرك عزيزي على كرمك، لكني أحب المطر، وملامسة الحياة، والشعور بهذه المعجزة، الاندماج مع الكون، أعلم بأن هذا لا يناسبك انت وهذه الارستقراطية العالية، جرب أن تحيا بالواقع بقرب الآخرين.
- لقد سافرت كثيرًا، ورأيت أكثر مما يجب، وعشت سنوات من الغربة بعد موت معلمي العزيز سقراط، وبعدها بدأت أفقد الأمان وأشعر بالخطر بهذه الأرض، لذلك حزمت أمتعتي وأفكاري ورحلت، لأكثر من عشر سنوات، كنت أحمل احتقاري لهذه الديموقراطية التي اغتالت سقراط، والآن يا سيدي تريدني أن أحيا بالواقع قرب الآخرين!
- رحلت وبجعبك الكثير من المال، والأكثر من السمعة .. لا يهم أتعلم بماذا يذكرني هذا المطر؟ عندما كنت بالخامسة من عمري، سألت جدي: لمَ تبكي السماء على شكل مطر؟ ضحك ودمعته بعينه وأجاب: شوقًا لأبنائها بالأرض يا ابن الفردوس.
- عظيم هو جدك على ما يبدو، أتفق معه، هو حنين هذه الروح لعالم أسمى، لعالم الأفكار والمعنى، أو الفردوس السماوي ...
- هل تؤمن بوجود الله؟
- أؤمن بفكرة او عقلٍ ما، شيء غامض أوجد هذا النظام الكوني الضخم، والأهم من ذلك أن يتبع الإنسان الفضيلة ويتجنب الرذيلة.
- أرى الحقيقة نسبية، والأخلاق مثلها أيها المعلم، ربما هي فضيلة بالنسبة لي، رذيلة بالنسبة لك، يحكم الأخلاق العادات الاجتماعية التي ورثناها، الضمير الإنساني يتشكل منذ مرحلة الطفولة، وكل مجتمع يربي أطفاله لتحقيق أهداف معينة، لذلك تختلف معاييرنا في الحكم على ما هو رذيلة وما هو فضيلة.
- همم أخبرني ما هي الديانة التي تمتلك الحقيقة وتتبعها؟
- اني أتبع الإله المطلق، وكل ما عداه نسبي، أتبع الصوت الإلهي بداخل صدري، وأعمل كل ما أرى أنه صالح، دون قيد، أعتنق نبض قلبي، الأديان في زمننا هذا يا أفلاطون مشتتة جدًا، كلٍ يدّعي الحقيقة، وهي منهم براء، انهم يدّعون البحث عن الحقيقة، ويقرأون بكتبهم التي تثبت لهم حقيقتهم، يرمون بكل من يخالفهم بقعر جهنم، والجنة والله لهم وحدهم، انهم شعب الله المختار، هم لم يختاروا ديانتهم ومعتقداتهم، انهم ورثوها ثم تعلموها، يقولون ان الدين فطرة وليس وراثة، حسنًا الفطرة لا نحتاج لتعلمها، ولا أعتقد بأنكم وجدتم الدين بشكل فطريًا دون تعلم!
- أفكارهم غير منطقية يا أوكتافيو وكل هذا ....
- انت آخر من يتحدث عن المنطق، انت بعيد كل البعد عن المنطق والواقع، سأذهب لأرى أرسطوطاليس .. وداعًا
- ماذا بك! حسنًا انتبه من الأمطار.

رجل بحديقة بها جميع أنواع النباتات والحيوانات، بلا شك هذا ارسطو الذي يتفحص تلك النبتة الصغيرة.
- مذهل! كيف جمعت كل هذه النباتات الطبيعية بمكان واحد!
- اوه! يجب أن تلقي التحية أولًا، لكن لا بأس لا بأس، الكثير من الرحالة يأتون لي بها، كما تعلم أن الاسكندر المقدوني كان تلميذ لي، وأمتلك الكثير من النفوذ.
- السياسة مجددًا هي المسيطرة، حسنًا قرأت ما كتبت في علم الأحياء والطبيعة، تبقى لك خطوة واحدة وتصل لنظرية التطور لداروين.
- داروين! ما هذا؟
- لا يهم، أتيت اسأل عن المنطق عند مؤسسه وهو انت كما يبدو.
- المنطق هو أداة للتفكير السليم، تصنيف الأمور البديهية، ووضعها بمقدمات كبرى وصغرى كي نرى النتيجة ...
- هل تعتقد بأن البديهيات العقلية جميع البشر يتفق على صحتها؟
- بالطبع كما ترى في علم ...
- انك تهذي يا رجل، نحن لا نتفق حتى بالأمور التافهة حتى.
- النقيضان لا يجتمعا يا هذا!
- بلى، هم باجتماع دائم، دع عنك هذا الكذب المنطقي، منطقك الصوري بعيد عن الواقع.
- بل هو الواقع.
- أتعلم! المنتصر بالجدال هو من يمتلك ويطرح مغالطات منطقية أكثر.

فجأة بدأت أسمع صوت انذار مدوي، أرى  وجه امي، ارى ذكريات طفولتي في منزلنا، أسمع صوت حواراتنا الفلسفية مع أصدقائي بقرب البحر، أرى غيوم كثيفة، انني بالطائرة وعاصفة قوية والجميع بحالة هلع، الأنوار الحمراء تضيء بشكل مجنون، ما هذه الجدلية! ... فتحت عيني بحالة صدمة، ألقيت ببعض الماء بجوفي، انها الساعة الخامسة صباحًا، ومنبه هاتفي كان هو صوت الانذار، ودّعت فراشي وأحلامي وقمت أتجهز وأرتدي ملابسي لمواجهة الحياة، أصبحت أنيق بشكل ملائم، رسمت ابتسامتي جيدًا أخذت أوراقي وخرجت لسيارتي، انه سباق لموكب الكون، الجميع يسرع للحاق بالعمل، بهذا الروتين اليومي، الروتين مضيعة للعمر، تمر الأيام متشابهة، بشكلٍ سريع، دون التفاتة وعي، فجأة ينتهي اسبوع، شهر، سنة، وأكثر.
آه حلمي الفلسفي، كل هذه الأفكار المترسبة بداخلي، تؤرقني ليلًا، وتزورني بالحلم، وما أحلامنا إلا نحن، هي مدخلات ومخرجات، والبعض ينظر لها كمعجزة ويستدل بها بأضخم المسائل الحياتية.
اني سماء دون شباك، وأرضٌ بلا منفى، دماء بلا خنجر ولا قلب، أسير أبحث عن التجربة، هي صلبة الحياة، وزاد لهذا العمر الزهيد.
لي المعزفة الأبدية التي تسير بلا انقطاع كصمت الموتى كجموده، لي الكنيسة والصلاة، انني قديسٍ بلا صومعة، وهي ترنيمة تستلذ بها الروح، جمال السماء ونسيم البحر، أستنشقها كي تتبدد الهرب الوحشة من صدري، كي تهرب الوحدة  ركضًا تحمل مخاوفها وتتعثر بالعدم، انا خوف بلا أمل، وصحراء دون غيم دون ماء بلا طين، ملامحي نزعت ثوب العمر، وهذا الفكر مزق كل ما تبقى انتماء، أدوّن حيرتي علّ السماء تصيّرني شجرة دون شتاء، تقف خالدة كالزمن، تدور بهذه الأبدية، تسقط الأوراق كالأيام، وتواصل الصمود، تبعثُ الظل بلا ضلال، انني رصاصة تبحث عن فوهة البندقية، ومسمار صدئ دون أن يعانق مطرقة، انني حشد راح ضحية تضليل متقن الرسم، غامض البيان، أجمع دموع الفاقدين الثكالى، أصنع تمثال من اللقاء، أرسم حلم بأجنحة، لكنه يأبى أن يطير، يقف على كتفي، يلازمني كي تمر هذه الأزمة المسماة "حياة" وهو متمسك بي، أتحسس هذا الليل وأرقي الفكري، لا أبحث عن النجاة وصوت الخلاص، همس السلام الذي بصدري يكفيني رغم حروب العالم .. يكفيني.


الأربعاء، 2 مارس 2016

أجنحة

أجنحة


بوابة الدخول : كسائحٍ أنظر للكون بدهشة!

الريشة الأولى: (1)
تخيّل أيها السفر، بأن هذا آخر لقاء لنا، نهاية عهدٍ وحقبة زمنية، وربما .. ربما هذه ولادة الحقيقة بيننا، هطول سيل من المسافات، لا تؤمن بالبدء، وانا مثلها لم أرى البدء، لم يلامس يقين وجداني، انا من انا؟ هل كنت هنا؟ هناك؟ أين الكون منه ومني؟  ولمَ يتسرب الحرف من بين أصابعي، سرق الإرادة مني ودثّرني بالحرية، خضّب حنجرتي، وأدخلني متاهات فيَّ لستُ أعلمها، لا خارطة، دون وجهة، أسير حثيث الخطى، أجرجر زلاتي، أرتب مخاوفي، اقبّلها كأرضٍ دون بستانِ، أقطف الزمان، بوعاء منقوش بالمكان، أراقب نزف العمرِ، لا أمتلك سوى عيني، وبصري ضعف منذ سنين، ما عساي فاعل؟ اتأمل الشتاء يسرق كل أوراقي، أجفّ والماء عذب تحت أقدامي، أبتلع العتمة والليل بجوفي يبحث عن صبحٍ قريب.

الريشة الثانية: (2)
تتساقط أورق السماء، كأن الشتاء ذاكرة تحصد الأيام، بلا زرعٍ، أرى خيطًا، أرى ملاكًا، ومعبد من البلور، أتمهل كي أحصي القديسين، بلا حدود هو المكان، مرايا أو ربما ملايين من البشر، أعدادهم في ازدياد، لم أفهم شيء من حركات أجسادهم، انهم في دوران أبدي، الدهشة تعلو ملامحي، وقفت متأملًا، ما مسيرة الإنسان بهذه الحياة؟ ما لهذا الدوران الأبدي لا يقف، انه دائرة الزمن، انني عالقٌ بالمكان، أحمل شكي، وأحطم كل ما تعلمته من قوانين الحياة، أسير وأوراقي معي، أدوّن حيرتي، ارتباكي، ترددي، وحدتي، أقطع المسافات بالترحال، أرى البشر، الطبيعة، وأشيّد نظرياتي التي أتحسسها بوعيي، انها ملكٌ لي، لا تحمل رمز أو اسم، خلعت الانتماء لأي فكرٍ أو مكان، كي لا يقيدني، (هل الاستقرار كمين؟) أهوى الحرية، والأجنحة، أمقت كل سلسلة تعيق الحراك، ان السكون مستنقع مليء بالأوبئة، الحركة أصل الكون، الذي يدور ويتضخم كل ثانية منذ انفجاره الأول، انني متمسكٌ بالشعر، وكأن القافية درع لا يخترقه الوجود، يخشاه العدم، يبدد الوحشة، يغتال صمت الأرض، يرسم أنين التراب، ان الأفكار هي عزائي الوحيد، مزقت كل التعاليم التي ورثتها، كي أحيا فعلًا انا، كيان، وكون، ووجود لا حدود له، سماء وأرض معًا في آن واحد، هذا العمر لن يتكرر، سيسرقه التراب على حين غفلة من بصري، وربما بصيرتي، لذلك وجب أن أقضيه بمعاييري الخاصة، أقيّم ما يستحق وما لا يستحق بهذه الحياة، لي النسبية، وللناس أيضًا، فلا يحق لأي إنسان أن يقيّم حياة أخيه، قناعاته، اهتماماته وهواياته، وحتى أوهامه، لا تحشر أنف معاييرك بحياته.

الريشة الثالثة: (3) بريد

إليك يا من لن تصل إليك هذه الكلمات ،، مع التحية
متأسف جدًا، انني بعيد بُعد السماء والنجوم، ما حيلة لي، سوى كتابة هذه الرسالة، سأقرأها مني إليك.
الآن العاصفة في عنفوان غضبها، وبدأت أشعر بدوار البحر، عندما رأيت أحدهم مرّ بقربي، كان يحمل ملامحك، متأكد بأنه انت، دمعت عيني، حاولت الوقوف، لكنني عندما رفعت جسدي الهزيل، لم أعد أرى سوى صور ضبابية سوداء، كانت الأصوات تتلاشى بشكلٍ تدريجي، كنت وحيد جدًا، بلا رفيق، بلا عكاز يسمى الأصدقاء، حاولت التشبث بأقرب شيء لي، تحسست الكرسي الخشبي، حاولت التشبث به، لكنه تخلى عني وسقطنا معًا.
أشعر بآلامٍ شديدة بكل عظمة بجسدي، بصعوبة بدأت أفتح نصف عيني، تحطم الكرسي بقربي، وكأنه يريد أن يواسي وحدتي، أتعلم! انه يشبهك تمامًا، سقطت أمام عيني، لا أعلم هل كان سقوطك للسماء، أم للأرض! انني متخمٌ بأحاديث الغرباء، بأفكارهم، بتزييف حقيقتي، لساني يرسم مختلف اللغات، بعيد عن لغتي الأم، ملامحي تأبى التخلي عن الانتماء، صدري غيمة أثقلها سر المطر، لا هطول، لا جفاف، لا شتاء، انني خريف، لقد شحب الكلام، وكأن رأسي مقبرة لأفكاري، سنين مرت يا صديق الروح، وانا أغفو كل ليلة، وكي أكون صادقًا، انني محموم بالأرق، أتمسك بقلقي الفكري، بأوهامي الثابتة، أخبئ أسراري بعناية، وتكون أنت حارس بلا بندقية، فأنت القلعة، والمدينة، والصلاة، وأوجاعي التي أتنفسها كي أحيا، جسر يحمي روحي من السقوط بالعدم للأبد،  وكأنك قارب نجاة، صنعته الملائكة من أجنحة معنوية، لا تُرى بالعين، تجدف كمعزوفة صوفية، انني أشعر بخفة بروحي، أتحسس النجوم، أرى الكثير، اللغة تعجز عن صب الرؤية بقالب قابلٍ للتأويل، غارق بالمعنى، بالوجود، بالأكوان السحيقة كالزمن، بامتداد المكان، وما المكان إلا وعاء يتسرب منه الزمن، يتشكل به، ثم يتلاشى، ويحيا بذاكرة البشر، بذاكرة الأشياء، بتراث القمح، وصوت الأرض، سأقف متأملًا، كما وعدتك، كي تكف الأرض عن الدوران.
 من سيداري وحدتك، ويمسح على الوحشة بصدرك، ستبكي وحيد، وتضحك بلا طعم.
من سيطبطب على عتمتي عندما أترك جسدي خاويًا، بلا روح، من سيعانق روحي وهي تعانق السماء، من سيقطع أكف الوداع، ليشغلها بالرجاء، من سيبللني؟
من سيمحو وحشة الليل من صدري، هذه الوحدة التي تتضخم بلا انفجار، وصوت الحياة الذي يرتجف بحنجرتي، أصرخ بصمتي على صوتي: أفق!

الريشة الرابعة: (4) بريد

غبارٌ مع التحية ،،

فجأة انبثق شيء من العدم، تلوّن المشهد بالأصفر، والأصفر فقط، يحجب السماء، الشمس، القمر، كل ما يمتد أمام عينيك، أجتاح القرية غبار لم يمتد لأيام، بل لشهور، ظننته في البدء ضيف عابر، وبالحقيقة انا هو الضيف العابر، وهو من المواطنين الأوائل، يعرف عادات المجتمع، ومخاوفه الأبدية، ويفهم ملامح كل وهم ورثوه من الأجداد، لأنه كان بينهم، يصيغ الأوهام، ويبدد الأحلام، يسطر الرؤى، ويدحض نبوءة لم تولد بعد، يدخل البيوت، يهتك أسرار الصدور، يبعث الاختناق، والربو كإثبات لوجوده الفعّال والمؤثر الذي لا يتأثر، هل هو بقايا الكون؟ بقايا الإنسان؟ لا أعلم، كل ما أعلمه بأن هذه الذرات تتناثر من خلايانا، من الفضاء، من شعاع المجرات، ثم لا تستقر.
 هو عالق بين الجبال، هنا، يبحث عن خلاص، عن جنة سماوية، عن شيء لا متناهِ، لكنه كالإنسان تائه بهذا الوجود، يبعثر الخطى، يشتت ما تبقى له من عمر، يبحث عن غاية، عن المعنى، عني وعنك، لا يكترث للتأويل، لا يبرر ما يفعل، هو يفعل وكفى، لم يراعي دستورنا وكل تشريع أو قانون أصدرناه، وكأنه يضحك ليثبت عجزنا، ونحن الذين اجتحنا كل بر وبحر، وصلنا الفضاء، اخترقنا القمر، اكتشفنا قوانين الطبيعة، انشأنا مدن من العدم، نفتخر بكل جنة أرضية خلقناها، نطير بالجو ضد الجاذبية، اكتشفنا كُنه الإنسان، سيطرنا على عقول ونفوس بالملايين، نتواصل بكل الطرق، خلال ثوان، بلا اكتراث بالمسافات وفرق الزمن.
انني أمسح الغبار عن زجاج سيارتي، كي أرى الطريق، كي تتضح الرؤية، مع ذلك لا يتضح شيء، تعايشنا معه، انه يأكل معنا، أشعر بحبات الرمل تنطحن بين أسناني، كتبي، كلوحة فنية، رسمها مبدع، يعلوها الغبار، بكل غلاف، فوق كل مؤلف حي كان أو ميت، لا يكترث، انه يعلو كل سطح.
أكتب الآن والحبر ممزوج بحبات الرمل، يتعثر قلمي، كي تثبت خطاي، وداعًا

الريشة الخامسة: (5) هبوط اضطراري للمجتمع أو ربما نافذة اجتماعية

الإنسان قادر على التعايش في أي بيئة كانت، بشرط أن يُجيد استغلال المعطيات المتوفرة أمامه، بأي مجتمع كان، في أي بيئة أو بلد، والذكي حقيقةً هو من يستطيع التعايش، وعدم أخذ البيئة كعذر لسوء حياته، انت إنسان لديك الصحة والوقت والمادة، حتى بالمريخ تستطيع تأمين حياة سعيدة، بشرط أن ترسمها برأسك قبل الواقع.

الكثير من أفراد مجتمع يعيش بصراع داخلي، ويظهر بوضوح في أفعاله وأحاديثه، وأسباب هذا الصراع هي الأمور التي يريد أن يفعلها ويعتقد بها بشكل واقعي، وما يفرضه عليه المجتمع من مبادئ ومثاليات، وفي نهاية الأمر يفقد الشخص نفسه والمجتمع، لأنه تائه بين الرغبات الداخلية والصورة الخارجية.


الانتماء يتشكل بطريقة تلقائية، انتماء عرقي، ديني، مذهبي، تخصصي، وغيرهم، وينمو التعصب كذلك بشكل تلقائي، وتوهم الأفضلية، والتعاون مع الجماعة، والتبرير للجماعة أيضًا، وتضخيم مساوئ الجماعات الأخرى، ومبدأ من ليس معنا فهو خطأ وضدنا، وتنشأ نظريات المؤامرة الي تؤرق ليلهم.


بوابة الخروج: كل ما في الأمر اني أحاول الفهم، ولا أصل إليه، سير الحياة، وسر الممات، بيان الحقيقة من الوهم، النظام الاجتماعي، هل يخدم مجتمع أم أفراد، ما حاجة الكون لي، وما حاجتي له، انني عالق بالزمن، مبهم طريقه ومنطقه، لا أعلم كيف يندمج الآخرين بهذا الوجود، أقف على أرضية هشّة الملامح والحدود.

الأربعاء، 27 يناير 2016

ورقة من رسالة أخيرة

مع التحية .. الى اللقاء، إن وُجد.

توطئة: صفر
كي تكون عميق، يجب أن تكون غني بالتجربة، والتجربة تتطلب المجازفة ومقارعة الأخطار، ما دمت تريد الحياة، فلا تخشى أبدًا.

(1)
أفتقد الحياة كثيرًا، أنني عالقٌ هنا، الظلام بدأ ينتشر بجسدي، لا أريد برسالتي هذه شيء منك، ليت الفراغ الذي بيننا ينتهي، ويصبح غيمة حبلى، لقاء أبدي، حقيقة كالموت، حتمي كمسيرة الإنسان بالوجود، هارب كالتاريخ، وأبطاله الحمقى، أتعلمين! شكي في أوج قوته، شباب بعد مراهق ربما، عقلاني حد العاطفة، ألملم تناقضاتي، أرسمها بجدار غرفتي، أحرقها قرب نافذة المنفى، لعلّ عصفور تائه بالعزف ينتشل الدخان كأغنية لم تتعدى حنجرة الوعي، ما هو الوعي؟ هل هو صلاة وتأمل بأعماق روحي، أم خيانة إجتماعية ضد الأعراف والتقاليد، أم إتباع لنبي نسي تعاليم الحياة ومابعدها، أم شراء حرية من دكان الوهم بزاوية العتمة، ربما تحطيم كل ما سبق.

(2)
جدي كان فيلسوف حياة، لم يقرأ سيرة فيلسوف واحد، لم يشم رائحة الورق، كان حكيم، يقاتل الزمان، دون أن يحمل قصيدة بذاكرته، لم يشعر بخواء الحداثة، كان واقعي، يغرس خنجره بالمثالية دون أسى، حرث الأرض، كفكف دماءه، رفع أشرعة الإنتماء لذاته، أما انا أصبحت أتنفس الورق، أفتش عنه بكل بلاد، وبالحقيقة أبحث عن ذاتي التي أكلها الدهر، أترقب طعم الحياة، ثقب الحداثة يتعبني، لا لون ولا طعم، فقط شكل بلا معنى، وسائل بلا أهداف، ميزان بلا عدل، ضياع للهوية، وما نحن دون الذاكرة، سوى أشباح، أشباح تسير بلا هدى، لا تعلم لمَ، لكنها  تواصل، رغم التعفن، كيف تغتال الشبح الذي بداخلك، وتبقى واقف، لا ترتجف، لا تسقط، هكذا وكأنك برج بناه آدم لآخر حفيد سيبقى على وجه الأرض. عندما كنت بالخامسة من عمري، سألت جدي: لمَ تبكي السماء على شكل مطر؟ ضحك ودمعته بعينه وأجاب: شوقًا لأبناءها بالأرض يا بن الفردوس.

(3)
كنت وحدي بتلك الصحراء المظلمة، أركض حاملاً رأسي، قرب خاصرتي، أبحث عن ينبوع الذكريات، سقطت به فجاةَ، تجرعت ذكرياتي، وذكريات من مضوا، أرى سقراط بسجنه، يتجرع السم بلا أسى، وأفلاطون برداءه الفضفاض، يركض بعيدًا، يداري دمعه ووحدته، يهرب ليمجد أكاديميته، ليخترع منطق أرسطو، المضاد لجمهوريته، فجأة، أرى مشاهد حياتي، سنين مضت، ظننتي نسيت هذه التفاصيل "التافهة" لكن الذاكرة أمينة، لا تحذف شيء، بل تُخفي أشياء.


(4)
أنى لهذا الإنسان أن يصنع علاقات مع الطبيعة، أن يلقي تحية الصباح على جبل شامخ وسحيق كالزمن، يبارك له يومه، ثم يمضي، وأن يتخذ غيمة خليل له، عابرة ربما، وسترحل حتمًا، يتعلق بها كمعشوقته، كالمطر مهاجر مع سبق الإصرار، وأن يقف متأملاً لبوح البحر، لزرقته الأبدية، 
لغموضه الخفي، ويقينه الذي يعبر عنه بالأمواج، متذبذب، كجهاز إرسال أثري، وأن يتنفس رائحة الأعماق، وتتسع حدقة وعيه المشتعل بلا بؤرة، وأن يصيّر السماء سقفًا، ومدخنة لتجديد ضوء الروج الذي يخفت من شدة التراب الذي يعصف بها كل ساعة، وهذا الجسد الذي ينمو كزهرة بالربيع، له فصول العمر، وذبول كختام لا بد منه، كل الكون وطني، وإنتمائي لذاتي فقط.

(5)
سأمد أشرعة الروح، محلقًا بين القوافي والمحن، مبعثرًا شكي، أبحث عن شيء ما، أضعته؟ ربما! أتحسس الوجود بجهلي، متشبث بعزلتي، أغفو غفوة كاذبٍ، أراقب وعيي، هل رحل؟ وغدر برأسي على حين عتمة، أحمل غضبي أنى رحلت، كجندي ببندقيته، والأعداء اخترقوا الحدود، هل لأفكاري حدود معنوية؟ وهل لروحي سقف لا يخترق؟ لا أعلم، أسير أقلب وجوه العابرين، كقصيدة، أبحث عن المعنى ببحرها، حتمًا كلٍ منهم له عمق ومعنى، هم ليسوا خشب على ما يبدو، ثم أخطو على مهلٍ، فهذه أمنا الأرض، وقدماي أنامل عازف، على سلم موسيقي خفي، قلبي كونٌ مزدحم، يرفرف، بكل حرية، كدخان لا يؤمن بالسلاسل.

(6)
أنني بالكتابة أحاول إبراز شيء ما، غامض، أضخم خلاياه كي يهبني بعض من المعنى، أعيد خلقه من جديد، أعرف الواقع بشكلٍ آخر، كما أراه بحدقة من سراب، أو رصاصة بمنتصف الرأس.   الكتابة نوع من التجلي، خروج من الجسد، والمحيط، لعالم غامض، أفكار، حروف متعجلة، فجأة ينقطع الخيط الواصل بينك وهذا العالم، لتتفاجئ بجسدك، بما حولك، "منذ متى انا هنا، أين انا!"


(7) 
عندما تخطر ببالي كلمة "قراء" كنت أظن بأن المقصود بها، هو قراءة الكلمات عن طريق النظر للأحرف، تبيّن لي بأن معنى "قراءة أعم وأشمل،  نحن نقرأ ملامح الوجه ونستخرج مابداخله، مظهر الفاكهة لمعرفة جودتها، السماء والأرض، الكون وهذا الوجود اللامنتاهي، القراءة هي استخراج للمعنى، من كل شيء، بشتى الوسائل، ولغايات متباينة

(8)
كل شيء يذكرك بالغربة، يشير إليها دون تلميح، كصوت الفناجيل، وبُعد السماء، حتى ملامحك بالمرآة، حزن القصيدة، ذبول القافية، وتياه البحر، وشدة العزف بلا أمل أو إنتهاء، بحة صوتك المكتوم، عمق عينك، نمو المسافات، وحدتك ... وحدتك

(9)
تساؤل يلحّ بأعماقي كطفل لم يخالجه يأس، ما الذي يستحق أن تفني عمرك لأجله؟ الفن، الإستكشاف، ولا فرق بينهما، انني أستكشف يقين الآخرين، أتجول بين عقيدة هذا، ومذهب ذاك، وربما إلحاد صديقي، لا أقيّم أيّ منهم، فقط أتأمل، الإنسان يخشى على أوهامه أن يمسها أحد بسوء، أو بخير، لا فرق، فهي تمثل له الحقيقة المطلقة، التي يسعى لأجلها، ويضحي بكل شي لها، فهي القوة الحقيقية التي يرتكز عليها، هي حياته، كيانه ووجوده المقدس، عكاز من الوهم يساعده على تحمل ماتبقى من العمر. التصنيف هواية الإنسان، يسألك عن أصلك ومسقط رأسك، ودينك، وأي نادٍ رياضي تشجع، كي يضعك بالرف المناسب، الذي بالطبع محمل بالأفكار المسبقة، المبنية على القوالب أو الصور النمطية، التي هي بلا شك بعيدة عن حقيقتك كفرد مستقل، عرفًا وإجتماعيًا تحمل إنتماء لعقيدة أو مذهب ما، وإن كنت بأعماقك بعيد عنه، لا ينفك الناس أن ينسبوك إليه.

(10)
هل بقي جوهر الفن أم تاه كما تاه الإنسان؟ ربما تحوّل لترفٍ، بعيد عن التعبير عن أعماق روح الإنسانية والعصر، لم يعد آلة تنفيس لايحيا الإنسان دونها.

أميلُ لكل ما هو إنساني، بالرغم ان "الإنسانية" مصطلح مضلل للحقائق، كالحرية تمامًا، يتخذها المرء رداءً عندما يريد إقناع جماعة ما، بفعلٍ مضاد لما يدّعي، فيغتال الإنسان لحماية الإنسانية، ويقصف مدينة كاملة بعد أن أهلكهم التفجير، بدافع السلام لا أكثر، "لا تخشوا .. لاتخشوا، نحن نحمي أمنكم يا سادة، لا تتحرك، نعم ثبت رأسك جيدًا، لا تبتسم، تبًا لدموعك" فجأة دماء بكل مكان، ودوي الرصاص يطرب الحاضرين، ويزداد الحماس لتصويب فوهة "الرشاش" لأفواه المزيد من الجائعين، بدافع إنساني نبيل، لا تنسى، ولا تنصت لأعداء الحقيقة، فنحن الحقيقة المطلقة. ربما الإنسان يسير مثقلًا بتاريخ كوكبه الأرضي، يحاول غزو الفضاء، تزيد مشاكله، ويخترع أعظم آلات الدمار، كي يبني حضارة بدموع حضارة سحيقه.

(12)
وقفت أمام تمثال ميدوسا المقلوب رأسًا على عقب، متأملًا عينيها والأفاعي بشعرها، هل سأتحول لحجر كما ذكرت الأساطير، شممت رائحة التاريخ بالمكان، وطرت بأجنحة أفكاري، هل سنسير بدائرة التاريخ الحتمية كما ساروا، هذا المكان أرى به بقايا آلاف السنين، أقف به انا، بكل حداثتي أتحسس عراقة الجدار، والنقوش، والأعمدة، وهذه المياه الحمراء، التي سرقت روحي بعزفها المشير للأبدية، كيف بنيت كل هذه الحضارة منذ القدم، هل كان هنالك تقنية وتطور ثم اندثر، ونزعم نحن بأننا أبناء التطور ومخترعيه، غارق بتساؤلاتي ...

(13) أو ربما نافذه للتفكير

كل الموارد قابلة للنفاذ، الإستثمار الدائم والمربح هو تنمية العقول، واستغلال الطاقة البشرية الهائلة بشكلٍ سليم، هكذا ننمو كأفراد وجماعات ودول وحضارات.
ماذا نفعل نحن؟
لا شيء، فقط نستهلك، نضيع الوقت، الطاقة، عقولنا، ونريد أن نشيّد حضارة، ونستدل على قدرتنا بالعرب قبل مئات السنين، نردد أسمائهم، وانجازاتهم.
يجب أن نعي بأنهم استغلوا ثروتهم البشرية، ونحن ضيعنا بشريتنا، وشيدنا حضارة قوامها الوهم، وهذه الشكليات المجوفة، نحن مستهلِكون ومستهلَكون.
نحن نغرق ولا نحاول السباحة، نصرخ بأسماء أجدادنا، الذين كانوا ماهرين بالسباحة، وهذا لا يغير واقع غرقنا.
أغلب المفاخرين بالأجداد هم الذين فقدوا الحاضر والإنجاز.
نقرأ التاريخ لنكتشف هويتنا، ونتخذ من الماضين عبرة، لا للتفاخر والسكون.
إن لم يكن التاريخ درس، فإن الحاضر ظلام محشو بالخواء.


(0)
سلامً على كل ما هو أتٍ، على المجد في عينيك، الخبز والصلاة، الحبر والدموع، الطريق حين تاه، على الحرب حين سرقت السلام، رجفة جسدي الخائف، الوجود حين ابتلعنا، روحك بحجم عتمة الليل، الإنسان بمنفى الحياة.

باب الخروج: صفر
لا تكن مسالمًا كالأموات، اغضب، تحرك، كي تثبت وجود على متن الكون.


هذه الرسالة موجهة لك أنت، لا أعلم إن كنت حي، أم بالمستقبل أو الماضي، كل ما أعلمه أنك تحيا بداخلي، وتُحيي هذه الروح التائه، هل انت وهم أم واقع!