الخميس، 24 مارس 2016

محاورة فلسفية


توطئة: عندما تكتمل دائرة عمري الزمنية بهذه الحياة، أخشى أن أسقط من ذاكرة الوجود وأتلاشى بالعدم وكأني لم أكن، لذلك انا أكتب الآن.

عندما كنت مسافر لليونان، زرت أثينا، رأيت كهل يسير ولا يكف عن السؤال، دنوت منه لأتأكد من هويته همست: هل انت سقراط؟
أجابني مبتسمًا: نعم، يدعونني سقراط، ولا زلت أبحث عن ذاتي بذاتي.
- كم بلغت من العمر؟
- بلغت من الوعي ثلاثة آلاف من السنين وأكثر من الوعي البشري.
- انني بالكاد أحمل سنين عمري الـ ...
- لا يهم، تكلم حتى أراك.
- بالمناسبة انا أوكتافيو، وإن لم تسأل، لماذا تريدني أن أتكلم، وأكذب، هل الحقيقة كذبة، والحقيقة أن لا حقيقة.
- انك شاب مفعم بالحياة، متحمس للجدل، للسفسطة، مغرور بقوة جسدك، تريد الاستكشاف، وتظن بإمكانك فهم هذا الوجود والتحكم به.
- هه! عبقري جدًا، أتعلم ما هو السر في عبقريتك؟ انك لم تكتب حرف واحد، كنت نتشر الاستفهامات، تتمشى بالطرقات، ثم تجرعت السم ورحلت، وأصبحت بطل خارق، مقدس جدًا بالنسبة للأطفال الذين كانوا يسيرون خلفك بالطرقات، مثل أفلاطون، بدافع الحزن، والملل بدأ يكتب بلسانك أفكار عظيمة جدًا، انك نص مفتوح، قابل للتأويل، والتضخيم.
- يا بني، انني فيلسوف حياة، أحيا كل دقيقة بعمري، لا أمتلك قلم وأوراق، كل أمتلكه هو الطرقات وخطاي، لم أخطط لموت بطولي كما تعلم ...
- هه موتك! ظننته لأجل المعرفة والإنسانية، لكنه كان لأجل السياسية، السياسة هي المسيطرة على كل الأمور، أتعلم كم ذرفت من الدمع عندما قرأت التحفة الأدبية التي كتبها أفلاطون العزيز عن قصة موتك، وتجمع تلاميذ حولك بالسجن، والسجّان .. آه كم تأسف لأجلك هذا الفتى الصالح، بالمناسبة أين أفلاطون؟
- للحديث والجدل آداب وأولها أن ....
- أعلم أعلم .. دلني أين يمكن أن القى أفلاطون وكفى.
- بالأكاديمية تقدم هناك لمدة خمس دقائق وستصل.
- حسنا، وداعًا، سئمت الحديث مع الكهول الذين يدعون معرفة الكون أفضل منا ونحن مجرد أطفال حمقى بالنسبة لهم.
بالتأكيد هذا هو أفلاطون، ذو الرداء الفضفاض، والمنكبين العريضين، ظننته أضخم وأوسم

- عمت صباحًا أيها المعلم.
- عمت صباحًا، أهلا بك.
- انني معلم ونبيٌ مثلك.
- ملامحك تشير بأنك من بلد بعيد عن هنا.
- نعم، بعيد جدًا، حيث الشرق العظيم، لكن بلادي ليست ببعد مدينتك الفاضلة.
- سترى عظمة هذه الجمهورية عندما يمسك دفة الحكم الملك الفيلسوف ...
- انها تمطر! 
- دعنا ندخل الأكاديمية ونكمل حوارنا، كي لا نتبلل ونصاب بالبرد.
- أشكرك عزيزي على كرمك، لكني أحب المطر، وملامسة الحياة، والشعور بهذه المعجزة، الاندماج مع الكون، أعلم بأن هذا لا يناسبك انت وهذه الارستقراطية العالية، جرب أن تحيا بالواقع بقرب الآخرين.
- لقد سافرت كثيرًا، ورأيت أكثر مما يجب، وعشت سنوات من الغربة بعد موت معلمي العزيز سقراط، وبعدها بدأت أفقد الأمان وأشعر بالخطر بهذه الأرض، لذلك حزمت أمتعتي وأفكاري ورحلت، لأكثر من عشر سنوات، كنت أحمل احتقاري لهذه الديموقراطية التي اغتالت سقراط، والآن يا سيدي تريدني أن أحيا بالواقع قرب الآخرين!
- رحلت وبجعبك الكثير من المال، والأكثر من السمعة .. لا يهم أتعلم بماذا يذكرني هذا المطر؟ عندما كنت بالخامسة من عمري، سألت جدي: لمَ تبكي السماء على شكل مطر؟ ضحك ودمعته بعينه وأجاب: شوقًا لأبنائها بالأرض يا ابن الفردوس.
- عظيم هو جدك على ما يبدو، أتفق معه، هو حنين هذه الروح لعالم أسمى، لعالم الأفكار والمعنى، أو الفردوس السماوي ...
- هل تؤمن بوجود الله؟
- أؤمن بفكرة او عقلٍ ما، شيء غامض أوجد هذا النظام الكوني الضخم، والأهم من ذلك أن يتبع الإنسان الفضيلة ويتجنب الرذيلة.
- أرى الحقيقة نسبية، والأخلاق مثلها أيها المعلم، ربما هي فضيلة بالنسبة لي، رذيلة بالنسبة لك، يحكم الأخلاق العادات الاجتماعية التي ورثناها، الضمير الإنساني يتشكل منذ مرحلة الطفولة، وكل مجتمع يربي أطفاله لتحقيق أهداف معينة، لذلك تختلف معاييرنا في الحكم على ما هو رذيلة وما هو فضيلة.
- همم أخبرني ما هي الديانة التي تمتلك الحقيقة وتتبعها؟
- اني أتبع الإله المطلق، وكل ما عداه نسبي، أتبع الصوت الإلهي بداخل صدري، وأعمل كل ما أرى أنه صالح، دون قيد، أعتنق نبض قلبي، الأديان في زمننا هذا يا أفلاطون مشتتة جدًا، كلٍ يدّعي الحقيقة، وهي منهم براء، انهم يدّعون البحث عن الحقيقة، ويقرأون بكتبهم التي تثبت لهم حقيقتهم، يرمون بكل من يخالفهم بقعر جهنم، والجنة والله لهم وحدهم، انهم شعب الله المختار، هم لم يختاروا ديانتهم ومعتقداتهم، انهم ورثوها ثم تعلموها، يقولون ان الدين فطرة وليس وراثة، حسنًا الفطرة لا نحتاج لتعلمها، ولا أعتقد بأنكم وجدتم الدين بشكل فطريًا دون تعلم!
- أفكارهم غير منطقية يا أوكتافيو وكل هذا ....
- انت آخر من يتحدث عن المنطق، انت بعيد كل البعد عن المنطق والواقع، سأذهب لأرى أرسطوطاليس .. وداعًا
- ماذا بك! حسنًا انتبه من الأمطار.

رجل بحديقة بها جميع أنواع النباتات والحيوانات، بلا شك هذا ارسطو الذي يتفحص تلك النبتة الصغيرة.
- مذهل! كيف جمعت كل هذه النباتات الطبيعية بمكان واحد!
- اوه! يجب أن تلقي التحية أولًا، لكن لا بأس لا بأس، الكثير من الرحالة يأتون لي بها، كما تعلم أن الاسكندر المقدوني كان تلميذ لي، وأمتلك الكثير من النفوذ.
- السياسة مجددًا هي المسيطرة، حسنًا قرأت ما كتبت في علم الأحياء والطبيعة، تبقى لك خطوة واحدة وتصل لنظرية التطور لداروين.
- داروين! ما هذا؟
- لا يهم، أتيت اسأل عن المنطق عند مؤسسه وهو انت كما يبدو.
- المنطق هو أداة للتفكير السليم، تصنيف الأمور البديهية، ووضعها بمقدمات كبرى وصغرى كي نرى النتيجة ...
- هل تعتقد بأن البديهيات العقلية جميع البشر يتفق على صحتها؟
- بالطبع كما ترى في علم ...
- انك تهذي يا رجل، نحن لا نتفق حتى بالأمور التافهة حتى.
- النقيضان لا يجتمعا يا هذا!
- بلى، هم باجتماع دائم، دع عنك هذا الكذب المنطقي، منطقك الصوري بعيد عن الواقع.
- بل هو الواقع.
- أتعلم! المنتصر بالجدال هو من يمتلك ويطرح مغالطات منطقية أكثر.

فجأة بدأت أسمع صوت انذار مدوي، أرى  وجه امي، ارى ذكريات طفولتي في منزلنا، أسمع صوت حواراتنا الفلسفية مع أصدقائي بقرب البحر، أرى غيوم كثيفة، انني بالطائرة وعاصفة قوية والجميع بحالة هلع، الأنوار الحمراء تضيء بشكل مجنون، ما هذه الجدلية! ... فتحت عيني بحالة صدمة، ألقيت ببعض الماء بجوفي، انها الساعة الخامسة صباحًا، ومنبه هاتفي كان هو صوت الانذار، ودّعت فراشي وأحلامي وقمت أتجهز وأرتدي ملابسي لمواجهة الحياة، أصبحت أنيق بشكل ملائم، رسمت ابتسامتي جيدًا أخذت أوراقي وخرجت لسيارتي، انه سباق لموكب الكون، الجميع يسرع للحاق بالعمل، بهذا الروتين اليومي، الروتين مضيعة للعمر، تمر الأيام متشابهة، بشكلٍ سريع، دون التفاتة وعي، فجأة ينتهي اسبوع، شهر، سنة، وأكثر.
آه حلمي الفلسفي، كل هذه الأفكار المترسبة بداخلي، تؤرقني ليلًا، وتزورني بالحلم، وما أحلامنا إلا نحن، هي مدخلات ومخرجات، والبعض ينظر لها كمعجزة ويستدل بها بأضخم المسائل الحياتية.
اني سماء دون شباك، وأرضٌ بلا منفى، دماء بلا خنجر ولا قلب، أسير أبحث عن التجربة، هي صلبة الحياة، وزاد لهذا العمر الزهيد.
لي المعزفة الأبدية التي تسير بلا انقطاع كصمت الموتى كجموده، لي الكنيسة والصلاة، انني قديسٍ بلا صومعة، وهي ترنيمة تستلذ بها الروح، جمال السماء ونسيم البحر، أستنشقها كي تتبدد الهرب الوحشة من صدري، كي تهرب الوحدة  ركضًا تحمل مخاوفها وتتعثر بالعدم، انا خوف بلا أمل، وصحراء دون غيم دون ماء بلا طين، ملامحي نزعت ثوب العمر، وهذا الفكر مزق كل ما تبقى انتماء، أدوّن حيرتي علّ السماء تصيّرني شجرة دون شتاء، تقف خالدة كالزمن، تدور بهذه الأبدية، تسقط الأوراق كالأيام، وتواصل الصمود، تبعثُ الظل بلا ضلال، انني رصاصة تبحث عن فوهة البندقية، ومسمار صدئ دون أن يعانق مطرقة، انني حشد راح ضحية تضليل متقن الرسم، غامض البيان، أجمع دموع الفاقدين الثكالى، أصنع تمثال من اللقاء، أرسم حلم بأجنحة، لكنه يأبى أن يطير، يقف على كتفي، يلازمني كي تمر هذه الأزمة المسماة "حياة" وهو متمسك بي، أتحسس هذا الليل وأرقي الفكري، لا أبحث عن النجاة وصوت الخلاص، همس السلام الذي بصدري يكفيني رغم حروب العالم .. يكفيني.


الأربعاء، 2 مارس 2016

أجنحة

أجنحة


بوابة الدخول : كسائحٍ أنظر للكون بدهشة!

الريشة الأولى: (1)
تخيّل أيها السفر، بأن هذا آخر لقاء لنا، نهاية عهدٍ وحقبة زمنية، وربما .. ربما هذه ولادة الحقيقة بيننا، هطول سيل من المسافات، لا تؤمن بالبدء، وانا مثلها لم أرى البدء، لم يلامس يقين وجداني، انا من انا؟ هل كنت هنا؟ هناك؟ أين الكون منه ومني؟  ولمَ يتسرب الحرف من بين أصابعي، سرق الإرادة مني ودثّرني بالحرية، خضّب حنجرتي، وأدخلني متاهات فيَّ لستُ أعلمها، لا خارطة، دون وجهة، أسير حثيث الخطى، أجرجر زلاتي، أرتب مخاوفي، اقبّلها كأرضٍ دون بستانِ، أقطف الزمان، بوعاء منقوش بالمكان، أراقب نزف العمرِ، لا أمتلك سوى عيني، وبصري ضعف منذ سنين، ما عساي فاعل؟ اتأمل الشتاء يسرق كل أوراقي، أجفّ والماء عذب تحت أقدامي، أبتلع العتمة والليل بجوفي يبحث عن صبحٍ قريب.

الريشة الثانية: (2)
تتساقط أورق السماء، كأن الشتاء ذاكرة تحصد الأيام، بلا زرعٍ، أرى خيطًا، أرى ملاكًا، ومعبد من البلور، أتمهل كي أحصي القديسين، بلا حدود هو المكان، مرايا أو ربما ملايين من البشر، أعدادهم في ازدياد، لم أفهم شيء من حركات أجسادهم، انهم في دوران أبدي، الدهشة تعلو ملامحي، وقفت متأملًا، ما مسيرة الإنسان بهذه الحياة؟ ما لهذا الدوران الأبدي لا يقف، انه دائرة الزمن، انني عالقٌ بالمكان، أحمل شكي، وأحطم كل ما تعلمته من قوانين الحياة، أسير وأوراقي معي، أدوّن حيرتي، ارتباكي، ترددي، وحدتي، أقطع المسافات بالترحال، أرى البشر، الطبيعة، وأشيّد نظرياتي التي أتحسسها بوعيي، انها ملكٌ لي، لا تحمل رمز أو اسم، خلعت الانتماء لأي فكرٍ أو مكان، كي لا يقيدني، (هل الاستقرار كمين؟) أهوى الحرية، والأجنحة، أمقت كل سلسلة تعيق الحراك، ان السكون مستنقع مليء بالأوبئة، الحركة أصل الكون، الذي يدور ويتضخم كل ثانية منذ انفجاره الأول، انني متمسكٌ بالشعر، وكأن القافية درع لا يخترقه الوجود، يخشاه العدم، يبدد الوحشة، يغتال صمت الأرض، يرسم أنين التراب، ان الأفكار هي عزائي الوحيد، مزقت كل التعاليم التي ورثتها، كي أحيا فعلًا انا، كيان، وكون، ووجود لا حدود له، سماء وأرض معًا في آن واحد، هذا العمر لن يتكرر، سيسرقه التراب على حين غفلة من بصري، وربما بصيرتي، لذلك وجب أن أقضيه بمعاييري الخاصة، أقيّم ما يستحق وما لا يستحق بهذه الحياة، لي النسبية، وللناس أيضًا، فلا يحق لأي إنسان أن يقيّم حياة أخيه، قناعاته، اهتماماته وهواياته، وحتى أوهامه، لا تحشر أنف معاييرك بحياته.

الريشة الثالثة: (3) بريد

إليك يا من لن تصل إليك هذه الكلمات ،، مع التحية
متأسف جدًا، انني بعيد بُعد السماء والنجوم، ما حيلة لي، سوى كتابة هذه الرسالة، سأقرأها مني إليك.
الآن العاصفة في عنفوان غضبها، وبدأت أشعر بدوار البحر، عندما رأيت أحدهم مرّ بقربي، كان يحمل ملامحك، متأكد بأنه انت، دمعت عيني، حاولت الوقوف، لكنني عندما رفعت جسدي الهزيل، لم أعد أرى سوى صور ضبابية سوداء، كانت الأصوات تتلاشى بشكلٍ تدريجي، كنت وحيد جدًا، بلا رفيق، بلا عكاز يسمى الأصدقاء، حاولت التشبث بأقرب شيء لي، تحسست الكرسي الخشبي، حاولت التشبث به، لكنه تخلى عني وسقطنا معًا.
أشعر بآلامٍ شديدة بكل عظمة بجسدي، بصعوبة بدأت أفتح نصف عيني، تحطم الكرسي بقربي، وكأنه يريد أن يواسي وحدتي، أتعلم! انه يشبهك تمامًا، سقطت أمام عيني، لا أعلم هل كان سقوطك للسماء، أم للأرض! انني متخمٌ بأحاديث الغرباء، بأفكارهم، بتزييف حقيقتي، لساني يرسم مختلف اللغات، بعيد عن لغتي الأم، ملامحي تأبى التخلي عن الانتماء، صدري غيمة أثقلها سر المطر، لا هطول، لا جفاف، لا شتاء، انني خريف، لقد شحب الكلام، وكأن رأسي مقبرة لأفكاري، سنين مرت يا صديق الروح، وانا أغفو كل ليلة، وكي أكون صادقًا، انني محموم بالأرق، أتمسك بقلقي الفكري، بأوهامي الثابتة، أخبئ أسراري بعناية، وتكون أنت حارس بلا بندقية، فأنت القلعة، والمدينة، والصلاة، وأوجاعي التي أتنفسها كي أحيا، جسر يحمي روحي من السقوط بالعدم للأبد،  وكأنك قارب نجاة، صنعته الملائكة من أجنحة معنوية، لا تُرى بالعين، تجدف كمعزوفة صوفية، انني أشعر بخفة بروحي، أتحسس النجوم، أرى الكثير، اللغة تعجز عن صب الرؤية بقالب قابلٍ للتأويل، غارق بالمعنى، بالوجود، بالأكوان السحيقة كالزمن، بامتداد المكان، وما المكان إلا وعاء يتسرب منه الزمن، يتشكل به، ثم يتلاشى، ويحيا بذاكرة البشر، بذاكرة الأشياء، بتراث القمح، وصوت الأرض، سأقف متأملًا، كما وعدتك، كي تكف الأرض عن الدوران.
 من سيداري وحدتك، ويمسح على الوحشة بصدرك، ستبكي وحيد، وتضحك بلا طعم.
من سيطبطب على عتمتي عندما أترك جسدي خاويًا، بلا روح، من سيعانق روحي وهي تعانق السماء، من سيقطع أكف الوداع، ليشغلها بالرجاء، من سيبللني؟
من سيمحو وحشة الليل من صدري، هذه الوحدة التي تتضخم بلا انفجار، وصوت الحياة الذي يرتجف بحنجرتي، أصرخ بصمتي على صوتي: أفق!

الريشة الرابعة: (4) بريد

غبارٌ مع التحية ،،

فجأة انبثق شيء من العدم، تلوّن المشهد بالأصفر، والأصفر فقط، يحجب السماء، الشمس، القمر، كل ما يمتد أمام عينيك، أجتاح القرية غبار لم يمتد لأيام، بل لشهور، ظننته في البدء ضيف عابر، وبالحقيقة انا هو الضيف العابر، وهو من المواطنين الأوائل، يعرف عادات المجتمع، ومخاوفه الأبدية، ويفهم ملامح كل وهم ورثوه من الأجداد، لأنه كان بينهم، يصيغ الأوهام، ويبدد الأحلام، يسطر الرؤى، ويدحض نبوءة لم تولد بعد، يدخل البيوت، يهتك أسرار الصدور، يبعث الاختناق، والربو كإثبات لوجوده الفعّال والمؤثر الذي لا يتأثر، هل هو بقايا الكون؟ بقايا الإنسان؟ لا أعلم، كل ما أعلمه بأن هذه الذرات تتناثر من خلايانا، من الفضاء، من شعاع المجرات، ثم لا تستقر.
 هو عالق بين الجبال، هنا، يبحث عن خلاص، عن جنة سماوية، عن شيء لا متناهِ، لكنه كالإنسان تائه بهذا الوجود، يبعثر الخطى، يشتت ما تبقى له من عمر، يبحث عن غاية، عن المعنى، عني وعنك، لا يكترث للتأويل، لا يبرر ما يفعل، هو يفعل وكفى، لم يراعي دستورنا وكل تشريع أو قانون أصدرناه، وكأنه يضحك ليثبت عجزنا، ونحن الذين اجتحنا كل بر وبحر، وصلنا الفضاء، اخترقنا القمر، اكتشفنا قوانين الطبيعة، انشأنا مدن من العدم، نفتخر بكل جنة أرضية خلقناها، نطير بالجو ضد الجاذبية، اكتشفنا كُنه الإنسان، سيطرنا على عقول ونفوس بالملايين، نتواصل بكل الطرق، خلال ثوان، بلا اكتراث بالمسافات وفرق الزمن.
انني أمسح الغبار عن زجاج سيارتي، كي أرى الطريق، كي تتضح الرؤية، مع ذلك لا يتضح شيء، تعايشنا معه، انه يأكل معنا، أشعر بحبات الرمل تنطحن بين أسناني، كتبي، كلوحة فنية، رسمها مبدع، يعلوها الغبار، بكل غلاف، فوق كل مؤلف حي كان أو ميت، لا يكترث، انه يعلو كل سطح.
أكتب الآن والحبر ممزوج بحبات الرمل، يتعثر قلمي، كي تثبت خطاي، وداعًا

الريشة الخامسة: (5) هبوط اضطراري للمجتمع أو ربما نافذة اجتماعية

الإنسان قادر على التعايش في أي بيئة كانت، بشرط أن يُجيد استغلال المعطيات المتوفرة أمامه، بأي مجتمع كان، في أي بيئة أو بلد، والذكي حقيقةً هو من يستطيع التعايش، وعدم أخذ البيئة كعذر لسوء حياته، انت إنسان لديك الصحة والوقت والمادة، حتى بالمريخ تستطيع تأمين حياة سعيدة، بشرط أن ترسمها برأسك قبل الواقع.

الكثير من أفراد مجتمع يعيش بصراع داخلي، ويظهر بوضوح في أفعاله وأحاديثه، وأسباب هذا الصراع هي الأمور التي يريد أن يفعلها ويعتقد بها بشكل واقعي، وما يفرضه عليه المجتمع من مبادئ ومثاليات، وفي نهاية الأمر يفقد الشخص نفسه والمجتمع، لأنه تائه بين الرغبات الداخلية والصورة الخارجية.


الانتماء يتشكل بطريقة تلقائية، انتماء عرقي، ديني، مذهبي، تخصصي، وغيرهم، وينمو التعصب كذلك بشكل تلقائي، وتوهم الأفضلية، والتعاون مع الجماعة، والتبرير للجماعة أيضًا، وتضخيم مساوئ الجماعات الأخرى، ومبدأ من ليس معنا فهو خطأ وضدنا، وتنشأ نظريات المؤامرة الي تؤرق ليلهم.


بوابة الخروج: كل ما في الأمر اني أحاول الفهم، ولا أصل إليه، سير الحياة، وسر الممات، بيان الحقيقة من الوهم، النظام الاجتماعي، هل يخدم مجتمع أم أفراد، ما حاجة الكون لي، وما حاجتي له، انني عالق بالزمن، مبهم طريقه ومنطقه، لا أعلم كيف يندمج الآخرين بهذا الوجود، أقف على أرضية هشّة الملامح والحدود.