توطئة: عندما تكتمل دائرة عمري الزمنية بهذه الحياة، أخشى أن أسقط من ذاكرة الوجود وأتلاشى بالعدم وكأني لم أكن، لذلك انا أكتب الآن.
عندما كنت مسافر لليونان، زرت أثينا، رأيت كهل يسير ولا يكف عن السؤال، دنوت منه لأتأكد من هويته همست: هل انت سقراط؟
أجابني مبتسمًا: نعم، يدعونني سقراط، ولا زلت أبحث عن ذاتي بذاتي.
- كم بلغت من العمر؟
- بلغت من الوعي ثلاثة آلاف من السنين وأكثر من الوعي البشري.
- انني بالكاد أحمل سنين عمري الـ ...
- لا يهم، تكلم حتى أراك.
- بالمناسبة انا أوكتافيو، وإن لم تسأل، لماذا تريدني أن أتكلم، وأكذب، هل الحقيقة كذبة، والحقيقة أن لا حقيقة.
- انك شاب مفعم بالحياة، متحمس للجدل، للسفسطة، مغرور بقوة جسدك، تريد الاستكشاف، وتظن بإمكانك فهم هذا الوجود والتحكم به.
- هه! عبقري جدًا، أتعلم ما هو السر في عبقريتك؟ انك لم تكتب حرف واحد، كنت نتشر الاستفهامات، تتمشى بالطرقات، ثم تجرعت السم ورحلت، وأصبحت بطل خارق، مقدس جدًا بالنسبة للأطفال الذين كانوا يسيرون خلفك بالطرقات، مثل أفلاطون، بدافع الحزن، والملل بدأ يكتب بلسانك أفكار عظيمة جدًا، انك نص مفتوح، قابل للتأويل، والتضخيم.
- يا بني، انني فيلسوف حياة، أحيا كل دقيقة بعمري، لا أمتلك قلم وأوراق، كل أمتلكه هو الطرقات وخطاي، لم أخطط لموت بطولي كما تعلم ...
- هه موتك! ظننته لأجل المعرفة والإنسانية، لكنه كان لأجل السياسية، السياسة هي المسيطرة على كل الأمور، أتعلم كم ذرفت من الدمع عندما قرأت التحفة الأدبية التي كتبها أفلاطون العزيز عن قصة موتك، وتجمع تلاميذ حولك بالسجن، والسجّان .. آه كم تأسف لأجلك هذا الفتى الصالح، بالمناسبة أين أفلاطون؟
- للحديث والجدل آداب وأولها أن ....
- أعلم أعلم .. دلني أين يمكن أن القى أفلاطون وكفى.
- بالأكاديمية تقدم هناك لمدة خمس دقائق وستصل.
- حسنا، وداعًا، سئمت الحديث مع الكهول الذين يدعون معرفة الكون أفضل منا ونحن مجرد أطفال حمقى بالنسبة لهم.
بالتأكيد هذا هو أفلاطون، ذو الرداء الفضفاض، والمنكبين العريضين، ظننته أضخم وأوسم
- عمت صباحًا أيها المعلم.
- عمت صباحًا، أهلا بك.
- انني معلم ونبيٌ مثلك.
- ملامحك تشير بأنك من بلد بعيد عن هنا.
- نعم، بعيد جدًا، حيث الشرق العظيم، لكن بلادي ليست ببعد مدينتك الفاضلة.
- سترى عظمة هذه الجمهورية عندما يمسك دفة الحكم الملك الفيلسوف ...
- انها تمطر!
- دعنا ندخل الأكاديمية ونكمل حوارنا، كي لا نتبلل ونصاب بالبرد.
- أشكرك عزيزي على كرمك، لكني أحب المطر، وملامسة الحياة، والشعور بهذه المعجزة، الاندماج مع الكون، أعلم بأن هذا لا يناسبك انت وهذه الارستقراطية العالية، جرب أن تحيا بالواقع بقرب الآخرين.
- لقد سافرت كثيرًا، ورأيت أكثر مما يجب، وعشت سنوات من الغربة بعد موت معلمي العزيز سقراط، وبعدها بدأت أفقد الأمان وأشعر بالخطر بهذه الأرض، لذلك حزمت أمتعتي وأفكاري ورحلت، لأكثر من عشر سنوات، كنت أحمل احتقاري لهذه الديموقراطية التي اغتالت سقراط، والآن يا سيدي تريدني أن أحيا بالواقع قرب الآخرين!
- رحلت وبجعبك الكثير من المال، والأكثر من السمعة .. لا يهم أتعلم بماذا يذكرني هذا المطر؟ عندما كنت بالخامسة من عمري، سألت جدي: لمَ تبكي السماء على شكل مطر؟ ضحك ودمعته بعينه وأجاب: شوقًا لأبنائها بالأرض يا ابن الفردوس.
- عظيم هو جدك على ما يبدو، أتفق معه، هو حنين هذه الروح لعالم أسمى، لعالم الأفكار والمعنى، أو الفردوس السماوي ...
- هل تؤمن بوجود الله؟
- أؤمن بفكرة او عقلٍ ما، شيء غامض أوجد هذا النظام الكوني الضخم، والأهم من ذلك أن يتبع الإنسان الفضيلة ويتجنب الرذيلة.
- أرى الحقيقة نسبية، والأخلاق مثلها أيها المعلم، ربما هي فضيلة بالنسبة لي، رذيلة بالنسبة لك، يحكم الأخلاق العادات الاجتماعية التي ورثناها، الضمير الإنساني يتشكل منذ مرحلة الطفولة، وكل مجتمع يربي أطفاله لتحقيق أهداف معينة، لذلك تختلف معاييرنا في الحكم على ما هو رذيلة وما هو فضيلة.
- همم أخبرني ما هي الديانة التي تمتلك الحقيقة وتتبعها؟
- اني أتبع الإله المطلق، وكل ما عداه نسبي، أتبع الصوت الإلهي بداخل صدري، وأعمل كل ما أرى أنه صالح، دون قيد، أعتنق نبض قلبي، الأديان في زمننا هذا يا أفلاطون مشتتة جدًا، كلٍ يدّعي الحقيقة، وهي منهم براء، انهم يدّعون البحث عن الحقيقة، ويقرأون بكتبهم التي تثبت لهم حقيقتهم، يرمون بكل من يخالفهم بقعر جهنم، والجنة والله لهم وحدهم، انهم شعب الله المختار، هم لم يختاروا ديانتهم ومعتقداتهم، انهم ورثوها ثم تعلموها، يقولون ان الدين فطرة وليس وراثة، حسنًا الفطرة لا نحتاج لتعلمها، ولا أعتقد بأنكم وجدتم الدين بشكل فطريًا دون تعلم!
- أفكارهم غير منطقية يا أوكتافيو وكل هذا ....
- انت آخر من يتحدث عن المنطق، انت بعيد كل البعد عن المنطق والواقع، سأذهب لأرى أرسطوطاليس .. وداعًا
- ماذا بك! حسنًا انتبه من الأمطار.
رجل بحديقة بها جميع أنواع النباتات والحيوانات، بلا شك هذا ارسطو الذي يتفحص تلك النبتة الصغيرة.
- مذهل! كيف جمعت كل هذه النباتات الطبيعية بمكان واحد!
- اوه! يجب أن تلقي التحية أولًا، لكن لا بأس لا بأس، الكثير من الرحالة يأتون لي بها، كما تعلم أن الاسكندر المقدوني كان تلميذ لي، وأمتلك الكثير من النفوذ.
- السياسة مجددًا هي المسيطرة، حسنًا قرأت ما كتبت في علم الأحياء والطبيعة، تبقى لك خطوة واحدة وتصل لنظرية التطور لداروين.
- داروين! ما هذا؟
- لا يهم، أتيت اسأل عن المنطق عند مؤسسه وهو انت كما يبدو.
- المنطق هو أداة للتفكير السليم، تصنيف الأمور البديهية، ووضعها بمقدمات كبرى وصغرى كي نرى النتيجة ...
- هل تعتقد بأن البديهيات العقلية جميع البشر يتفق على صحتها؟
- بالطبع كما ترى في علم ...
- انك تهذي يا رجل، نحن لا نتفق حتى بالأمور التافهة حتى.
- النقيضان لا يجتمعا يا هذا!
- بلى، هم باجتماع دائم، دع عنك هذا الكذب المنطقي، منطقك الصوري بعيد عن الواقع.
- بل هو الواقع.
- أتعلم! المنتصر بالجدال هو من يمتلك ويطرح مغالطات منطقية أكثر.
فجأة بدأت أسمع صوت انذار مدوي، أرى وجه امي، ارى ذكريات طفولتي في منزلنا، أسمع صوت حواراتنا الفلسفية مع أصدقائي بقرب البحر، أرى غيوم كثيفة، انني بالطائرة وعاصفة قوية والجميع بحالة هلع، الأنوار الحمراء تضيء بشكل مجنون، ما هذه الجدلية! ... فتحت عيني بحالة صدمة، ألقيت ببعض الماء بجوفي، انها الساعة الخامسة صباحًا، ومنبه هاتفي كان هو صوت الانذار، ودّعت فراشي وأحلامي وقمت أتجهز وأرتدي ملابسي لمواجهة الحياة، أصبحت أنيق بشكل ملائم، رسمت ابتسامتي جيدًا أخذت أوراقي وخرجت لسيارتي، انه سباق لموكب الكون، الجميع يسرع للحاق بالعمل، بهذا الروتين اليومي، الروتين مضيعة للعمر، تمر الأيام متشابهة، بشكلٍ سريع، دون التفاتة وعي، فجأة ينتهي اسبوع، شهر، سنة، وأكثر.
آه حلمي الفلسفي، كل هذه الأفكار المترسبة بداخلي، تؤرقني ليلًا، وتزورني بالحلم، وما أحلامنا إلا نحن، هي مدخلات ومخرجات، والبعض ينظر لها كمعجزة ويستدل بها بأضخم المسائل الحياتية.
اني سماء دون شباك، وأرضٌ بلا منفى، دماء بلا خنجر ولا قلب، أسير أبحث عن التجربة، هي صلبة الحياة، وزاد لهذا العمر الزهيد.
لي المعزفة الأبدية التي تسير بلا انقطاع كصمت الموتى كجموده، لي الكنيسة والصلاة، انني قديسٍ بلا صومعة، وهي ترنيمة تستلذ بها الروح، جمال السماء ونسيم البحر، أستنشقها كي تتبدد الهرب الوحشة من صدري، كي تهرب الوحدة ركضًا تحمل مخاوفها وتتعثر بالعدم، انا خوف بلا أمل، وصحراء دون غيم دون ماء بلا طين، ملامحي نزعت ثوب العمر، وهذا الفكر مزق كل ما تبقى انتماء، أدوّن حيرتي علّ السماء تصيّرني شجرة دون شتاء، تقف خالدة كالزمن، تدور بهذه الأبدية، تسقط الأوراق كالأيام، وتواصل الصمود، تبعثُ الظل بلا ضلال، انني رصاصة تبحث عن فوهة البندقية، ومسمار صدئ دون أن يعانق مطرقة، انني حشد راح ضحية تضليل متقن الرسم، غامض البيان، أجمع دموع الفاقدين الثكالى، أصنع تمثال من اللقاء، أرسم حلم بأجنحة، لكنه يأبى أن يطير، يقف على كتفي، يلازمني كي تمر هذه الأزمة المسماة "حياة" وهو متمسك بي، أتحسس هذا الليل وأرقي الفكري، لا أبحث عن النجاة وصوت الخلاص، همس السلام الذي بصدري يكفيني رغم حروب العالم .. يكفيني.